حركة المقاطعة (BDS ) و (المجتمع الأكاديمي العلمي) من المناطق الحساسة التي توجع الكيان الصهيوني بشدة، ويتألم مسؤولو الكيان والمؤيدين لهم في حكومات العالم الأخرى عندما تقع أحداث مهمة ضد الكيان الصهيوني في هذين النطاقين على مستوى العالم.
ومن المسؤوليات والواجبات المهنية والأخلاقية لأشخاص مثل شخصي المتواضع، بحكم المتابعة المستمرة لما يدور حولهم في العالم أن ينقلوا للمتابعين والقراء بعض تلك الأحداث التي ترتبط بالصراع العربي-الصهيوني. آخر الوقائع التي شهدها المجتمع الأكاديمي في الجامعات الفرنسية هو التحرّك الذي قام به الأكاديميون الفرنسيون يوم 12 آذار/مارس الحالي، عندما نظموا يوماً للتضامن الأكاديمي مع القطاع الأكاديمي في غزة، ومع أهل القطاع، وللمطالبة بضرورة وقف فوري لإطلاق النار ومنع استمرار الحرب.
هذه الفعالية تسببت في استنفار الحكومتين الفرنسية والاسرائيلية للقيام بتحركات عير مسبوقة، فقد أعلن جيش دولة الكيان على لسان رئيس الأركان هيرتسي هاليفي عن إحالة الضابط المسؤول عن تفجير وهدم مباني الجامعة الاسلامية في غزة للتحقيق، في محاولة واضحة لتطويق هبة الأكاديميين وأساتذة الجامعات في فرنسا ومنع انتشار مثل تلك الانتقادات في المجتمعات الأكاديمية في بلدان أخرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة.
غير أن التحرك غير المسبوق هو الذي قامت به الحكومة الفرنسية عن طريق رئيس الوزراء الفرنسي بنفسه والتعليقات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال اجتماع لمجلس الوزراء في فرنسا.. فما هي القصة..وإيه الحكاية بالتفصيل؟!
بداية فإن اليوم التضامني، الذي دعت إليه “هيئة تنسيق الجامعات الأوروبية ضد الاستعمار في فلسطين“، كاد أن يمرّ بهدوء ومن دون أيّ حادثة تذكر في جامعات فرنسية وأوروبية عديدة، لولا تلك الواقعة التي حدثت في معهد العلوم السياسية في باريس 1، حين أصرّت طالبة من “اتحاد الطلاب اليهود في فرنسا” (UEJF) المعروف بتطرّفه الصهيوني، على تصوير وجوه المشاركين في الاحتجاج، فمنعها المنظّمون خوفاً من عرض هذه الصور لاحقاً على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو سيناريو يتكرّر كثيراً خلال التظاهرات والاحتجاجات الداعمة للفلسطينيين منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
ويتعرّض المشاركون، بعد نشر صورهم، لحملات تهديد مبرمجة من قبل مجموعات إسرائيلية ناشطة على وسائل التواصل الاجتماعي مثل “اللواء اليهودي” الذي أُعيدت تسميته مؤخراً وبات يعرف “بالتنانين السماوية” أو “سيوف سليمان” أو “فريق العمل الإسرائيلي”، وهذه المجموعات تمارس التشهير ضد الناشطين والصحافيين والمسؤولين المنتخبين والمحامين الذين يؤيدون حقوق الفلسطينيين، من خلال نشر تفاصيلهم الشخصية على شبكات التواصل الاجتماعي لإثارة حملة مضايقات وتهديدات هاتفية ضدهم وضد أحبائهم.
لم تمضِ ساعات على فيام الطالبة الإسرائيلية بنشر تغريدة تروي فيها قصة عدم السماح لها بتصوير وجوه المشاركين في الفعالية، حتى توجّه رئيس الوزراء غابرييل أتال، شخصياً وبصحبة وزيرة التعليم العالي، سيلفي ريتيللو إلى معهد العلوم السياسية، وهناك دخل أتال بشكلٍ استفزازي ومن دون إذن مسبق إلى (اجتماع استثنائي) لمجلس إدارة المعهد ووبّخ المجتمعين بقوله: “إنّ السمكة تتعفّن دائماً من الرأس”، قبل أن يشنّ هجوماً على المنظّمين ويتهمهم بمعاداة السامية !!
تصرّف رئيس الوزراء أثار موجة غضب في الوسط الأكاديمي الفرنسي، وعبّر رئيس المؤسسة الوطنية للعلوم السياسية عن “اشمئزازه” من هذا التصرّف غير القانوني، عندما استخدم عبارة “ضيف غير متوقّع” للإعلان عن وصول رئيس الوزراء. في حين قال البروفيسور جان فرانسوا بايار، وهو باحث في المركز الوطني للأبحاث العلمية، إنّه “خلال خمسين عاماً من تحليل الأوضاع الاستبدادية في جميع أنحاء العالم، لم ألاحظ قط مثل هذا التدخّل الفظيع والشنيع من قبل السلطة السياسية في مجال المعرفة الأكاديمية، إن الأنظمة الاستبدادية الحاصلة على براءة اختراع الطغيان هي أكثر تهذيباً من بعض الأنظمة الديمقراطية مثل فرنسا”.
لم ينحصر الهجوم الحكومي على الأكاديميين الفرنسيين الذين نظّموا يوم الدعم لغزة على تصرف رئيس الوزراء الذي وُصفَ “بالسيّئ” بل وصل الأمر إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي اعتبر في اليوم التالي خلال جلسة لمجلس الوزراء، أن ما قام به المؤيدون للفلسطينيين مع الطالبة الإسرائيلية “أمر لا يوصف وغير مقبول على الإطلاق”. فيما قدّمت الحكومة الفرنسية تقريراً إلى المدعي العام يطالب بإجراء التحقيقات فيما وصفته “بالتعليقات ذات الطبيعة المعادية للسامية الموجّهة ضد أحد الطلاب”.
وبالتوازي،مع تلك التحركات الرسمية من أكبر المسؤولين الحكوميين، كرّرت وسائل الإعلام الفرنسية الكبرى، الاتهامات للأكاديميين الذين اعتصموا تضامناً مع الفلسطينيين بمعاداة السامية، ووصفت رئيسة الجمعية الوطنية يائيل برون بيفيه (من حزب ماكرون) “بأعمال العنصرية ومعاداة السامية”، كذلك فعلت وزيرة المساواة بين الجنسين، أورور بيرجي، في حين قال رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرار لارشر: إن معهد العلوم السياسية قد أصبح “مخبأً لليسار الإسلامي”. اليمين المتطرف دخل هو الآخر على خط تلك المعركة، إذ نشر أحد صقور المتطرفين الفرنسيين واسمه جان مسيحة (من أصول مصرية) صورة للمعتصمين معلّقاً: “في معهد العلوم السياسية في باريس، ينظّم عملاء حماس الملثمون مؤتمراً صحافياً”.
وفي مساء يوم 14 آذار/مارس، حظرت الشرطة في باريس تنظيم مسيرة مؤيّدة للفلسطينيين أمام معهد العلوم السياسية بحجة “سياق التوترات الشديدة”.
حادثة معهد العلوم السياسية تؤكد مرة جديدة، أن ما يخرج أحياناً على لسان إيمانويل ماكرون من انتقادات لسياسة “إسرائيل” الإجرامية في غزّة ليس سوى “نفاق سياسي دعائي”، وأنّ فرنسا محكومة بالفعل من قبل لوبي صهيوني، يمارس رقابة مشدّدة على السياسيين الذين يريدون البقاء في السلطة، وعلى مقربة من انتخابات برلمانية أوروبية، حيث تشعر الأغلبية الماكرونية الحاكمة، بفقدان ثقة الشارع الفرنسي.
ويعتقد هؤلاء أن الوقوف إلى جانب “إسرائيل” مهما فعلت، هو السبيل الأنجح للبقاء في السلطة !!
لكن الجميع بات يعلم حاليا أن المعادلات الدولية تتغير لمصلحة الحقوق الفلسطينية ليس فر فرنسا فقط بل فى العالم كله، وإن غدا لناظره قريب.
المصدر: الشادوف+الميادين