“جوليو ريجيني” يتزوج “راشيل كوري”!

0 427

بقلم/ أحمد حسن الشرقاوي

جوليو ريجيني الباحث الايطالي الشاب، والناشطة السياسية الأمريكية راشيل كوري لا يمكن أبدا أن يلتقيا فى هذه الدنيا، لأنهما فارقا الحياة بالفعل. جوليو مات فى القاهرة عام 2016، وراشيل توفيت في قطاع غزة عام 2003.
لو عاشا، ربما قابل بعضهما الآخر، وربما صارا صديقين حميمين، أو حتى تزوجا وأنجبا أطفالا، وربما قدما لمنطقتنا وللبشرية إنجازات كبيرة، هما أو أولادهما. لكن الغدر لم يمهلهما لاستكمال حياتهما العملية التي بدت لمن حولهما كحياة واعدة ومبشرة ومزدهرة.
فالشاب جوليو ريجيني، وفقا للرواية الرسمية الايطالية، قتل تحت التعذيب فى مصر بعد اختفائه لمدة 9 أيام، ووجدث جثته وعليها آثار تعذيب فى مدخل طريق القاهرة- الاسكندرية الصحراوي يوم 3 فبراير من العام 2016.
أما الفتاة الشقراء ( راشيل كوري) فهي مناضلة حقوقية أميركية شابة، دافعت عن حقوق الفلسطينيين، وذهبت إلى قطاع غزة ضمن حركة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني، وحاولت منع القوات الإسرائيلية من هدم منازل الفلسطينيين في مدينة رفح، لكنها لقيت حتفها تحت جنازير جرافة عسكرية إسرائيلية عصر يوم 16 مارس 2003.
أسماء (ريجيني) و (كوري) وصورهما تظهر بشكل منفصل فى نشرات الأخبار، لكن فكرة الربط بينهما كرمز لكل ضحايا الاستبداد والاحتلال والغطرسة والظلم فى بلادنا، ربما لم تخطر على بال معدي النشرات ومنتجي البرامج الإخبارية. لكن خيال كاتب سيناريو يمكن أن يحقق الارتباط بينهما ليطرح فكرة ما .. فما هي الحكاية؟!

خلال فترة دراستي الجامعية بمصر عام 1986، شاهدت العرض الأول للجزء الأول من فيلم (العودة الى المستقبل) Back to the future) الذي يروي قصة مراهق أميركي يدعى مارتن ماكفلاي، قام بدوره الممثل الشاب مايكل جيه فوكس، والذي يستخدم سيارة متطورة ليسافر بها عبر الزمن مع صديقه العالم الفيزيائي العجوز الدكتور إيميت براون، والذي يقوم بدوره الممثل الأميركي كريستوفر لويد. الشاب يحاول الانتقال بالسيارة إلى المستقبل فتعيده إلى الماضي، وهذا ما يعطيه فرصة لتغيير مستقبله.
انبهرت وقتها بفكرة الفيلم خصوصا مسألة “التدخل فى الماضي لتغيير المستقبل”.
في الجزء الثاني من الفيلم، وخلال زيارة الشاب مارتن ماكفلاي للمستقبل ( بعد مرور 30 عاما)، يهبط في مدينته الخيالية بأميركا «مدينة هيل فالي» يوم 21 أكتوبر من العام 2015، ليجد أشياء كثيرة تغيرت!
عموماً، الفكرة الأهم بالنسبة لموضوعنا هو “السفر عبر الزمن لتغيير مستقبل جوليو ريجيني وراشيل كوري”، لنصل منها الى النقطة الرئيسية التي أريد طرحها في نهاية هذا المقال.

#############################

عام 2015 هو العام الذي نصل فيه الى ذروة أحداث (السيناريو التخيلي) عن ريجيني وكوري، لكن الأحداث تبدأ من يوم مصرع راشيل فى 16 مارس 2003، وتتصاعد الأحداث لتصل ذروتها مطلع ديسمبر 2015 .
تبدأ أحداث السيناريو الافتراضي بمشهد راشيل ورفاقها يرتدون بزات صفراء ويواجهون عملية هدم تقوم بها جرافات اسرائيلية فى رفح بقطاع غزة حتى تقوم راشيل بالصعود فوق كومة من الرمال صارخة فى وجه الجرافة التي تتقدم نحوها وتدهسها بلا رحمة.
المشهد التالي بعد مرور 17 عاما. الرئيس الفلسطيني محمود عباس( أبو مازن) يوم 29 نوفمبر2020 وبمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، يجري مكالمة هاتفية مع والدي راشيل كوري، يخبرهما فيها ان السلطة الفلسطينية قررت منح ابنتهما الراحلة “نجمة الحرية”، تقديرا لـ”شجاعتها وإيمانها القوي بحق الإنسان في الحرية والعدالة والكرامة.”
وفي المكالمة يعرب أبو مازن لوالدي راشيل، سيندي وكريغ كوري، المقيمان في واشنطن، عن تقديره للعمل الذي قام به والدا الناشطة كوري بإنشاء “مؤسسة راشيل كوري للسلام والعدالة”، ويقدم لهما دعوة لزيارة فلسطين.
وبعد أن أعرب والد راشيل عن شكره للرئيس عباس على هذا التكريم،وبعد أن عبرت والدتها عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني وقالت: “سنواصل العمل في مؤسستنا لنشر قيم ومبادئ راشيل التي آمنت بها نحو تحقيق السلام والعدالة للجميع.”
يأتي المشهد التالي ( زووم إن) على وجه القيادي الفلسطيني المنشق محمد دحلان، الذي يجلس على مكتب فخم فى برج خليفة فى أبو ظبي، ثم تفتح ( زووم أوت) لنراه يتابع نبأ مكالمة عباس في نشرات الأخبار، وهو يكاد يتميز من الغيظ.. وتعبر لغة جسده عن الكثير من الضيق والغضب، ويقول لأحد مساعديه:
• هدا اللي شاطرين فيه.. تحركات رمزية!! ولا شيء على الأرض
• ويرد المساعد: رغم رمزية التحرك، هالشيء (الرمزي) ممكن يحرج أصدقائنا الاسرائيليين والاماراتيين خصوصا بعد خطوات التطبيع الأخيرة.
!وهنا يشير دحلان بيده مطالبا مساعده بالانصراف والخروج من الغرفة، ويتمتم متأففا: “بعرف، بعرف
تقترب الكاميرا من وجه دحلان الذي يبدو منهكا ومهموما ثم يبدأ فى التثاؤب والشعور بالنعاس، ويسند رأسه على ظهر كرسي المكتب، ويبدأ فى الحلم.
يتخيل دحلان فى حلمه انه عثر على آلة الزمن التي يسافر بها الى الماضي، وانه فى تلك الفترة كان يعمل ضمن قوة الأمن الوقائي الفلسطيني في غزة وبمقدوره الوصول الى المكان فى حي السلام بمدينة رفح وإقناع سائق الجرافة العسكرية الاسرائيلية بالتوقف وعدم دهس راشيل، ويشعر بسعادة غامرة بعد أن نجح فعلا فى اقناع السائق الاسرائيلي المتعجرف بمنحه مبلغا ماليا كبيرا.. دولارات أمريكية فى حقيبة دبلوماسية إماراتية!
ومن هنا يتغير الأمر كله. راشيل عاشت ولم تمت عصر يوم 16 مارس 2003، وعادت للولايات المتحدة لتستكمل دراستها الجامعية، ثم تأتي لمصر وتستقر فيها وتؤسس مركزا لأبحاث السلام والعدالة وحقوق الانسان فى القاهرة، ويصبح هذا المركز من أهم المراكز الحقوقية فى المنطقة.
تمر المشاهد بسرعة فى عقل دحلان الناعس، من ثورة 25 يناير 2011 والآلاف فى شوارع القاهرة والمحافظات، وتتوالى مشاهد الثورة وأهمها مشهد إعلان تخلي مبارك عن الحكم، ثم مظاهرات 30 يونيو ومشهد الانقلاب فى 3 يوليو 2013، واعتصام رابعة العدوية، والمذابح التي قام بها النظام العسكري المصري.
وتتوالى بسرعة أقل، مشاهد تروي كيف صارت راشيل كوري معروفة بنشاطها الحقوقي والانساني المناهض للظلم، وأصبحت عبئا على حكام مصر الجدد، لكنهم لايستطيعون فعل شيء تجاهها أو تجاه المركز ويضطرون للتعايش معه!
في شهر ديسمبر من العام 2015 يأتي الباحث الايطالي جوليو ريجيني لمصر،لاستكمال رسالته في الدكتوراه عن النقابات العمالية المصرية، وينصحوه بالذهاب الى مركز ( راشيل كوري) في مدينة نصر بالقاهرة، وبالفعل يذهب اليها وينجذب اليها بفضل روح الدعابة التي تتمتع بها وشخصيتها الفريدة المتميزة.
راشيل عام 2015 كانت تبلغ من العمر 35 عاما، وتساعد جوليو البالغ من العمر 28 عاما فى استكمال أبحاثه نظرا لمعرفتها الوثيقة بالمنطقة، وإجادتها التامة للغة العربية، بلهجاتها المختلفة (المصرية والشامية والخليجية والمغاربية).
تتوطد الصداقة بينهما، ويحكي لها كل تفاصيل حياته، يبلغها ريجيني في أكثر من مناسبة بمضايقات الأمن المصري له، ودخولهم الى شقته خلسة، والعبث بأوراقه وأبحاثه، فتنصحه بالاتصال بالسفارة الايطالية فى القاهرة، ويفعل ذلك، ويبلغها بما قام به فى رسائل نصية على الهاتف المحمول.
كما يبلغها عصر يوم 25 يناير 2016 بأنه ذاهب للقاء نقيب الباعة الجائلين فى القاهرة واسمه ( محمد عبد الله)، وبعد دقائق يبلغها فى رسالة نصية أخرى انه تم اختطافه من محطة المترو، وبعد ساعتين يبلغها فى رسالة أخرى من رقم مجهول انه موجود فى الغرفة رقم 13 بمقر الأمن الوطني المصري فى لاظوغلي بوسط القاهرة، وانه يتعرض للتعذيب.
تتحرك راشيل كوري بسرعة وتبلغ السفارة الايطالية ثم السفارة الأمريكية فى القاهرة، وتتواصل مع والدي جوليو فى روما ليعقدا مؤتمرا صحفيا عالميا، ثم تصدر راشيل بيانا باسم مركزها تعلن فيه اختطاف الأمن المصري للباحث الايطالي وأن لديها أدلة موثقة على عملية الاختطاف، وتُحَمّل السلطات المصرية المسؤولية عن حياة ريجيني.
الحكومة الايطالية تندد بعملية الاختطاف وتطالب السلطات المصرية بإطلاق سراحه، ثم تتوالى مشاهد الإدانات والاستنكار من البلدان الأوروبية المنفردة ثم من سفارة الاتحاد الأوروبي بالقاهرة، وبعدهم الولايات المتحدة التي تدين الاختطاف بشدة وتطلب من القاهرة اطلاق سراحه فورا، وهو ما يتم بعد ساعات قليلة. وتضطر القاهرة للإعتذار، وتعلن عن محاسبة المسؤولين عن هذا الخطأ ( غير المقصود)!!
يتحول الشاب ريجيني الى أيقونة للحرية وتستضيفه القنوات الإخبارية المختلفة فى ايطاليا وأوروبا والولايات المتحدة مع راشيل التي كانت السبب المباشر فى إنقاذه من الموت، ويبدو فى كل تلك اللقاءات أن (راشيل كوري) أحبت (جوليو ريجيني) وانه يبادلها هذا الحب.
يفرح العالم كله بهذا الثنائي الواعد، وفي لقاء مشترك مع (أوبرا وينفري) أشهر مذيعة فى الولايات المتحدة والعالم يعلنان عن نيتهما فى الارتباط والزواج، وتأسيس مركز مشترك للحريات العامة وحقوق الانسان يواجه الاستبداد والاحتلال فى منطقة الشرق الأوسط، ويتخذ من العاصمة الايطالية روما مقرا له.
تتحمس وينفري للفكرة وتتبرع لها بمليون دولار على الهواء مباشرة، وتدعو مشاهديها للتبرع أيضا، وفي خلال ساعات يجمع جوليو وراشيل مبلغا ضخما لتأسيس المركز.
يستيقظ دحلان من غفوته القصيرة منزعجا من تلك الفكرة وهذا المركز الحقوقي الذي يهدد كل أصدقائه الطغاة فى المنطقة، وكذلك الأصدقاء الاسرائيليين المحتلين للأراضي العربية والفلسطينية.
يفرك دحلان وجهه بكلتا يديه، ويمسح على شعره، ثم يشعل سيجارته، ويقول:” ياله من كابوس مزعج، ليتني لم أنقذ راشيل كوري من الموت دهسا تحت جنازير الجرافة الاسرائيلية عام 2003″.. وهذا مشهد رئيسي ( ماستر سين ) للسيناريو التخيلي الذي قد أشرع فى كتابته قريبا.

###############################################################

والآن، بعد أن طفنا سريعا على ملامح هذا السيناريو الافتراضي، أظن أننا يجب أن نتحدث عن الواقع الذي يقول ان راشيل كوري ماتت، وأن جوليو ريجيني مات أيضا. وأن الموتي لا يعودون أبدا الى الحياة.
لكن والدي جوليو ريجيني ( أباه وأمه)، ووالدي راشيل كوري ( أباها وأمها)، يعيشان وبصحة جيدة، ويتبنيان الأهداف والقيم التي مات من أجلها ابنيهما، وهي قيم الحرية والعدالة ومناهضة الاحتلال والظلم والتعذيب ودعم حقوق الانسان في منطقتنا وفي العالم.
هذه القيم سوف تجد صدى وربما دعما من الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن ونائبته كمالا هاريس، فمن يا تري ذلك الشخص أو المؤسسة أو الهيئة التي تستطيع أن تجمع بين أسرتي ريجيني وكوري فى فعاليات حقوقية وإنسانية مشتركة بعيدا عن أية حسابات سياسية؟!
ربما مثل تلك الفعاليات تنقلنا من هذا السيناريو الافتراضي الى حركة ملموسة على الأرض، وعموما، سواء تم تخليد ذكرى جوليو وراشيل فى عمل سينمائي مشترك أو فى أكثر من عمل، وسواء تم الجمع بين أسرتيهما فى أنشطة إنسانية وحقوقية مشتركة أو حتى منفردة،
فإن (جوليو ريجيني) و(راشيل كوري) سيبقيان فى ذاكرة منطقتنا لفترة طويلة، باعتبارهما أيقونتين تمثلان كل ضحايا العنف والاحتلال والقهر والظلم فى بلادنا، سواء من أبناء منطقة الشرق الأوسط أو من خارجها.

معلومات عن الكاتب:
أحمد حسن الشرقاوي
كاتب صحافي – مصر
نائب مدير وكالة أنباء الشرق الأوسط ( أ.ش.أ) سابقا
مدير مكتب ( أ.ش.أ ) فى لندن (2002-2006

المشاركات الاخيرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.