محمد عماد صابر يكتب: الشيخ القرضاوى..هكذا يرحل العظماء !

0 510

من القاهرة العريقة الحزينة بقلبي ووجداني.. ومن اسطنبول الشامخة المستنيرة بجسدى وكيانى.. أودع العلامة المجدد الإمام الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله ورفع قدره فى جنات النعيم.. في عليين، مع الصديقين والشهداء والصالحين.


منذ الصباح الباكر وجميع القنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي تتداول خبر وفاة ورحيل قامة كبيرة من قامات العلم والفكر والجهاد والدعوة إلى الله تعالى وفارس من فرسان المنابر؛ وكأننا أمام حدث عظيم ومصاب جلل أصيبت به الأمة الإسلامية هز وجدانها وزلزل كيانها وألهب مشاعرها حتى تسارعت الكلمات وصدرت البيانات لـتأكيد الخبر وسادت حالة من الصمت الرهيب تبعها حالة من الإعلان الرسمي بأن الرُّوح فاضت إلى ربها وبأننا أمام حقيقة وقدر محتوم، لا حلم؛ نعم إنه حدث كبير وألم عظيم يعتصر قلوبنا وهو خبر رحيل العلامة المجدد الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى والذي أحبه الجميع كبيراً كان أم صغيراً، ولا سيما القيمين على العمل الإسلامي في مختلف أنحاء العالم عموماً، وفي الساحتين الاسلامية والعربية خصوصا.

“ابن مصر.. فقيد الأمة”

الشيخ القرضاوى يعرفه الشعب المصرى ويعرفه العرب والمسلمون ويعرفه العالم أجمع.. يصدح بالحق مهما كانت التضحيات فى قوة وذكاء، لايخاف من أحد ولايخوف أحدا.. أسلوبه رقيق وفهمه عميق وكلامه دقيق، ويدلك على الخير من أقصر طريق، يبهرك ويمتعك ويقنعك، وتسمع منه الجديد والمفيد.. شاعر وأديب ومفتى وفقيه، جهده متواصل لا ينقطع ولا ينفصل.. زياراته تاريخية إلى كل بلدان العالم.. لقاءات وحوارات ترجمت إلى أفكار وبرامج وخطط وأعمال.

هكذا يرحل الكبار والعظماء.. رحل القرضاوى “الشيخ العلامة والشاعر البحارة”، رحل ولم تغب قضايا الأمة الإسلامية عن وجدانه وضميره، تراه دائما في حركة مستمرة وعمل دؤوب وزيارات لا نظير لها إلى مختلف الأقطار يلازمه حب وترحيب في كل مكان، وكيف لا؟؛ وهو الأديب الملهم، والداعية الرباني، والسياسي المحنك والشاعر المرتب.. فتارةً نراه يعلم النّاس الحلال والحرام، وما يجوز وما لايجوز، وتارةً أخرى يُفصّل لهم في مقاصد الشريعة وفقه الواقع، وكثيراً ما نراه يوضح السياسات الشرعية، ويركز للحفاظ على الثوابت ومراعاة الاجتهاد والتجديد.. وكل ذلك ينهله نهلاً من معين القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، بأسلوب سهل وبسيط، وفى كل الأحوال لا تغيب عنه القضية المركزية والأهم وهي قضية فلسطين المحتلة وبيت المقدس.
رحل أعظم الشعراء وأديب الأدباء فارس المنابر والكلمة الحرة، والتي لطالما جاهر بها في وجه سلاطين الظّلم والفساد أينما وجدوا.
رحل حبر الأمة بعد قرن من العطاء والجهاد والصدع بكلمة الحق، ربما سيقف كثيرون في تأريخهم لهذا القرن مع العلامة يوسف القرضاوي- فقيها مجددا وناصحا أمينا ومصلحا ثائرا- وربما لن يحتاج مؤرخو هذا القرن في العالم الإسلامي من الأحياء الآن، والآتين من بعدهم لأكثر من استعراض حياة مجدده الإمام يوسف القرضاوي لتتراءى لهم الأحداث المفصلية واللحظات الحاسمة التي حدثت فيه.

“القرضاوى مبدعا”

كان الشيخ علامة بارزة في تاريخ هذه الأمة وكفاحها ضد الغزاة والمستبدين والغلاة.. كان فقيها متفردا من بين أقرانه، متمكنا من أدوات الفقه، مُستوعبا لحقائق العصر ومقاصد الشريعة، تجاوز التقليديين في حرفيتهم، وأظهر إمكانات ومرونة الشريعة في استيعاب الظروف والأحوال وتبدل الزمان، فأفاد وأجاد بعلمه وسعة عقله وفقهه.
نعم بهذا الابداع عاش القرضاوى لدينه وأمته، فلم يخذل قضية عادلة، ولا افتُقد في عظائم الأمور، مقداما غير هيَاب، اقتحم ساحات النقاش الفكري والفقهي في مسائل معاصرة، ونوازل وحوادث مُستجدة التبست على كثيرين وأثارت جدلا ولغطا، من مثل-الديمقراطية والحريات- بفهم وإلمام وعقل مُستوعب وملكة فقهية متفردة.
لن تجد معركة من معارك الأمة العظام في عقودها الأخيرة إلا وللشيخ القرضاوي له فيها أثر وبصمة وحضور مهيب، يجتهد لزمانه وظروفه بلا تلكؤ ولا ترهل ولا انغلاق.
ولم يخذل أمته في أيَ قضية من قضاياها على الاطلاق، ولم يكن متفرجا على محن الأمة المتوالية ورجالها ومصلحيها في السجون والمنافي لأكثر من قرن، ولم يكن مجرد قاص وناقل لحكايات باردة وبطولات مُدَّعَاة، بل كان في قلب المعركة ومعمعان الميدان سجينا أو شريدا، ناصحا ومعارضا ومدافعا.
وحين استبد به الهرم وقامت المحنة الأخيرة في مصر السيسي والثورة المضادة أوذي الإمام وأوغلوا في شيطنته وحاولوا عزله عن الشأن العام ودفنه حيا، لكنه؛ “عملاق ودود” ليس من طينة يلين عزمها وتتوارى عن الأنظار طلبا للعافية، بل ظل حاضرا ثابتا على مواقفه المنابذة للطغيان، مناصرا للثورات الشعبية منحازا للأمة وحريتها وكرامتها وسلطانها ضد القهر والطغيان، عصياً على الكسر متعاليا على الانتقام محافظا على ذاته ووسطيته.

“رائد الوسطية والاعتدال”


القرضاوي بلا منازع هو رائد الوسطية والاعتدال في عصر نهشه الانحلال والغلو العلماني والديني، وكل الذين صنفوه ورموه بتهمة التطرف والإرهاب من الحكام ومن يدور في فلكهم، هم عالة على كتبه ومواقفه في تحرير المفاهيم الإسلامية الصحيحة في فهم القرآن وضوابط التعامل مع السنة وأصول فقه الحلال والحرام ومستجدات الزكاة المعاصرة والحج ونوازله، ومقاصد السياسة الشرعية وفقه الأقليات وغيرها من القضايا التي كانت فتاويه وتقريراته مرجعا فيها لدى المجامع الفقهية.. وهو بحياته الحافلة وسمعته العالمية يمكن لمؤرخي الاجتماعيات ونوازل الفقه وأدب الرحلات أن يروا في مسيرته المتحركة اليقظة تطور هذه القضايا في أصقاع العالم الإسلامي من المغرب الأقصى والجزائر إلى الشرق الأقصى ودول آسيا الوسطى والشام والعراق وبلاد الأناضول واليمن وشرق إفريقيا، فقد عايش المجدد القرضاوي في كل هذه الأقطار قضايا المسلمين وهمومهم وزارهم وزاروه.

“خسارة فادحة”


لقد خسر العالم الاسلامي اليوم قامة كبيرة من قامات العلم والفقه والاجتهاد، وخسرت أيضاً مصر المحروسة ابنها البار، العالم الأزهرى الفقيه، والتى كان يزورها في فترات متقطعة فلطالما أحبّها وأحبّته واشتاق إليها واشتاقت إليه؛ ثم زارها عقب ثورة 25 يناير المجيدة إماماً وخطيبا لصلاة الجمعة بميدان التحرير فيها وخلفه الملايين.. ومن اسطنبول الرائدة التى زارها الشيخ فى مهرجان “شكرا تركيا”، 22/4/2016 تنعى الرئاسة التركية الشيخ بمزيد من الحزن والدعاء، قال الرئيس التركي إن المرحوم “لم يتنازل طوال حياته عما آمن به، وكان خير مثال يحتذى به للتوفيق بين مبادئ الإسلام والحياة”، ودعا له بقوله: “أكرمه الله الجنة وتغمده برحمته”.
نعم رحل العلامة الشيخ يوسف القرضاوي بعد رحلة طويلة من العطاء الكامل والجهد المتواصل، وهذه سنة الله في خلقه كتبها علينا جميعاً، ولكن فرق كبير أن يرحل رجل عادي وأن يرحل رجل بأمة وقامة كبيرة ستترك فراغاً كبيراً في الساحة الإسلامية والعمل الدعوي ربما نحتاج سنوات إلى مَلءِ الفراغ.
رحل عنا الإمام العلم الشيخ يوسف القرضاوي، لكن مناقبه وآثاره وحضوره وحيويته لن يمحوها الزمان القادم، وستبقى حية في وجدان المسلمين، كما بقيت آثار أسلافه من الأئمة الأربعة والمصلحين قديما وحديثا.
سيدى الشيخ الجليل؛ نستلهم منكم أيه الإمام الفذ والقائد العظيم الملهم والداعية الرباني معاني الفداء والتضحية والسير على خطى المصلحين أمثالكم، ونعاهدكم بأننا سنعمل بنهجكم المنشود في سبيل الإصلاح ومحاربة الفساد والطغاة، من كل مكان فى العالم- مصر الأزهر، الشام الكبير العزة والكرامة، فلسطين القدس والمقدسات، المغرب العربي الكبير، ليبيا الحبيب، السودان الشقيق، اليمن العتيق، الخليج كل الخليج، موريتانيا الحسن، بيروت الدرة الغالية، طرابلس العلم والعلماء، قطر الرفيق التى عشت فيها وفاضت روحك الطاهرة على أرضها وتحت سمائها-ومن كل بلدان العالم باكستان وافغانستان واندونيسيا وماليزيا وافريقيا وأسيا وأوروبا وأمريكا ودول البلقان واستراليا العالم كله، العالم بقاراته الست؛ وكل بقعة على تراب أرض تركيا الشامخة.
سنشتاق إليكم؛ ولن نقول لكم وداعاً بل نقول لكم إلى الملتقى في جنة الخلد مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

محمد عماد صابر

سياسي وبرلماني مصري
من نواب برلمان الثورة 2012

الآراء الواردة فى المقال تعبر عن صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن موقع الشادوف أو تمثل سياساته التحريرية

المشاركات الاخيرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.