محمد عماد صابر يتساءل: هل يستعيد بوتين “مجد أوراسيا” الروسي ؟! (1-2 )

0 375

ظلت الجغرافيا كلمة السر الدائمة في الاستراتيجية الروسية قديماً وحديثاً؛ ولهذا فقد آمن الزعماء الروس في كل مراحل تاريخهم بالتفكير الإمبريالي لتحييد التهديدات داخل الفضاء الأوراسي والذي يشمل في الخرائط الروسية: (القارة الأوروبية والآسيوية بما فيها أجزاء من إفريقيا والشرق الأوسط بمساحة تتجاوز 54 مليون كم2)، ونظروا إلى القِيم الغربية الليبرالية والاقتصاد المفتوح على أنه مقدمات لخطرٍ يهدد كيانهم، وسعوا دائماً لبناء نظام اجتماعي وسياسي ذاتي يمنح الدولة قدرة الدفاع عن مصالحها وكبح الاعتداءات الخارجية.. وشارك في ذلك التخطيط مفكرون روس، أبرزهم صديق بوتين المقرب المفكر الروسي ألكسندر دوغين، والذي صدر له كتاب عام 1998 تحت عنوان “أسس الجيوبوليتيكا (مستقبل روسيا الجيوبولتيكي)”، وشهد رواجاً وتُرجم لعدة لغات عالمية بما فيها العربية.
انصب اهتمام بوتين منذ توليه الحكم فى الكرملين عام 2000م، على النطاق “الأوراسي” الذي يربط موسكو عبر دوائر متداخلة بالدول الآسيوية والأوروبية والإفريقية، وتكون أولى حلقاتها دول الاتحاد السوفياتي السابق؛ بوصفها منطقة نفوذ خالصة لروسيا أمام التمدد الغربي، من خلال عقد شراكات وثيقة، وفرض نفوذ اقتصادي وسياسي وأمني على الدول التي تشاركها الحدود، أو التدخل عسكرياً عند اللزوم، كما حدث في جورجيا والقرم وأوكرانيا، أو أبعد من ذلك كما في سوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى.
يرى أنصار المشروع الأوراسي بأن الحضارة الغربية متعثرة ولا تمثل مشتركات بشرية حضارية، وكل محاولاتها للتحديث والنهضة تسير وفق مصالح غربية تقوض إرادة الدول المتوسطة والصغيرة، وتستغل حاجاتها وتستنزف مواردها.. وقد رأى بوتين أن الوقت مواتٍ للتحرك، حيث رأى أن الولايات المتحدة منقسمة في سياستها الخارجية، ولدى الأوروبيين تحديات داخلية”، فيما تمتلك روسيا سطوة معتبرة في دول الاتحاد السوفيتي السابقة وداخل القارة الأوروبية، بفضل إستراتيجية الطاقة التي تغذي العالم، والردع العسكري بإعلانه عن منظومات صاروخية فوق صوتية قادرة على إهلاك أى دولة على الأرض، أضف لذلك، ثقة الحلفاء بروسيا، وعضويتها في مجلس الأمن الدولي.

كرر بوتين مرارا بأن روسيا من حقها استخدام القوة إذا ما رأت أن أمنها مُهدَّد، وبأن الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية تجاهلتا مصالح موسكو الأمنية.. يضاف الى ذلك أن النخبة الروسية السياسية والعسكرية ترى على الدوام بأن الانهيار السوفيتي كان أكبر كارثة جيوسياسية عظمى في التاريخ المعاصر، خصوصاً وأن حوالي 25 مليون روسي وَجدوا أنفسهم خارج التراب الروسي – البلد الأم – ولأنه يرى في أوراسيا منصة تفاعلات سياسية وعسكرية واقتصادية بنى بوتين شراكة حقيقية مع الصين، واتفاقات حمائية لدول وأنظمة في إيران ومصر والهند وسوريا والجزائر وحتى الخليج، كي تصبح موسكو صاحبة الكلمة الأمنية العليا هناك، وهو ما يمثل انتصاراً مرحلياً لمشروع بوتين الأوراسي، و قفزة في تاريخ الصراع مع الغرب، أي بين نظريات أمركة العالم، والمشروع الأوراسي.

وجاء التوسع الروسي في جورجيا والقرم وأوكرانيا ودعم إيران وميليشيا حفتر في ليبيا رداً على حالة التمدد الأمريكي، فبوتين بكل تأكيد لن يرضى بالفُتات ليثبّت مشروعه في كل إقليم دخله جيشه، فهو يفكر بروسيا وطريقة توسيعها وكيف يقسّم الشرق عن الغرب، انه يبذل كل ما يستطيع للحصول على النفوذ في الدول السابقة في الاتحاد السوفياتي.

ولأن التفاعلات في النسق الدولي تتّسم بالفعل ورد الفعل، فظهور وحدات سياسية جديدة، مثل روسيا والصين والهند وتركيا، يبدو أمراً طبيعياً لإحداث توازن دولي، وهذا الأمر نظَّر له كثير من المفكرين الإستراتيجيين أمثال زبيغينيو بريجنسكي في كتابه “رؤية استراتيجيّة” لنْ تتمتع الولايات المتحدة بالنفوذ والزعامة بعد عام 2025، عارضاً العديد من الأسباب الداخلية والخارجية لهذا التراجع، ومن بينها التدخلات العسكرية في العراق وأفغانستان، ويرى بريجنسكي إنّ أميركا ستبقى على المستوى السياسي والعسكري مهيمنة على العالم، رغم أنَّ البنية الشاملة للأحادية القطبية على المستوى الاقتصادي والثقافي والمالي ستضعف تدريجياً.
هذا التنظير من رائد علم السياسة عززته اعترافات متلفزة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أدلى بها في خطاب له قائلاً: “لا شكَّ في أننا نعيش نهاية الهيمنة الغربية على العالم، والتي امتدّت ثلاثة قرون، فالأمور تتغير، وقد تعمّقت كثيراً بسبب تراكم أخطاء الغرب في بعض الأزمات، وبسبب الاختيارات الأميركية لعدة سنوات، والتي أدت إلى إعادة الصراعات في الشرق الأدنى والأوسط وأماكن أخرى.. إنّه أيضاً ظهور قوى جديدة اليوم، لا شكّ أننا قلّلنا من شأنها، وفي مقدمتها الصين، أيضاً الاستراتيجية الروسية، والحقّ يقال إنها تقود منذ بضع سنوات إلى المزيد من النجاح.

ولكن السؤال الذين يطرح نفسه: كيف يبني الروس سياستهم نحو المجد الأوراسي بالمخ أم بالعضلات؟ هذا ماسنتناوله فى مقالنا القادم ان شاء الله تعالى.

د. محمد عماد صابر

سياسي وبرلماني مصري

من نواب برلمان الثورة 2012 

*********************************************************************

الآراء الواردة فى المقال تعبر عن صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن موقع الشادوف أو تمثل سياساته التحريرية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.