صاحب (القدس عروس عروبتكم).. وفاة الشاعر العراقي الكبير (مظفر النواب)

0 434

غادر عالمنا، ظهر اليوم الجمعة، الشاعر العراقي البارز مظفّر النوّاب (1934 – 2022) بعد أن أنهكته سنوات المنافي ومعارضة الاستبداد، وبعد أن شيّد صرح الشعر طيلة حياته مُعذّباً ومتعباً. رحل “الشاعر الثوري” الذي نقل القصيدة العربية إلى عالم المواجهة السياسية ضد الطغاة وخلق منها عالماً رمزياً يحشد بالانتصار للمظلومين والمهمّشين وضحايا الأنظمة القمعية والفساد السياسي.

ونقلت “وكالة الأنباء العراقية” عن مدير عام دائرة الشؤون الثقافية في العراق، عارف الساعدي، أنّ النوّاب “توفى في مستشفى الشارقة التعليمي بالإمارات اليوم”.

لكنّ الأمر لم يدم طويلاً قبل أن ينالَ منه معترك الانقلابات العسكرية والتحالفات من جديد مع التجاذب الأيديولوجي في الستينيات. فحُكم عليه بالإعدام بعد الإطاحة بحُكم عبد الكريم قاسم (1963)، لكنّه استطاع مغادرة العراق مرتحلاً بين عواصم عربية من دمشق إلى بيروت ثم الى اليونان التي تعرّض فيها لمحاولة اغتيال عام 1981.

يُمثّل شعرُ مظفر النوّاب صرخة قوية محفوظة ردّدتها الشعوب الغاضبة عند كلّ منعطف ثوري، وهو الذي ظلّ وفياً لصوت العروبة والقضية الفلسطينية التي كتب عنها، بل صارت كتاباته مثالاً وشعاراً أُممياً، فكيف تُنسى “القدس عروس عروبتكم” أو “تلّ الزعتر” أو “المسلخ الدولي وباب الأبجدية” “ويوميات عروس الانتفاضة”؟

كما لامس بشعره عتبة مرهفة في تمثيله للحزن، وهو صورة عن حياة الشقاء التي ألمّت به؛ فكتب “بحّار البحارين” و”مرينا بكم حمد” و”بنفسج الضباب”.

وبرحيل مظفّر النواب، نكون أمام مرحلة سياسيّة كبرى وموقف من الوجود والتحدّي الأبدي للطغيان، وليس أمام نهاية شكل من القصيدة فحسب. يودّعه اليوم المستضعفون والحزانى الذين كتب عنهم ولهم، والذين تراءى لهم في انتفاضاتهم وثوراتهم التي يُراد لها أن تُجهَض وتذوي ويأبى الشاعر إلّا أن يقيمَها من جديد بوحيه إذ يقول:

أين سيذهب من لا بيت له
ولا امرأة ولا وطناً؟
سبحانك مهما بلغ الطائر
يتعب من دون مطار.
يكاد مظفّر النوّاب، الذي غادر عالمنا اليوم الجمعة، يكون آخر شعراء السرديات الكبرى العرب. غادر معظم الشعراء القضيةَ الكبرى، وانحازوا إلى الهمّ الشخصي الموغل في الفردانية بكل خساراتها وهزائمها وطموحاتها، في حين ظلّ، إلى جانب قلّة، متمسّكاً بجسارة الكلمة التي لم تسقط يوماً من حسابات الثورة والقدرة على التغيير، وهي الكلمة ذاتها، التي ذهبت به إلى قلب دائرة التورُّط؛ منفيّاً ومهدَّداً بالإعدام وممنوعة كتبه من التداوُل، ليس على صعيد القُطر العراقي فحسب، بل في أكثر من بلدٍ في المنطقة العربية.

سيذهب النوّاب (بغداد 1934 – الشارقة 2022) في منفاه القسري الطويل، عبر نفق محفور بسكّين مطبخ. نجح الشاعر العراقي، ذات ليلة باردة من ليالي شتاء 1967 في مغادرة سجن “الحلّة” ببابل، هرباً منه ومن الإعدام شنقاً؛ ليشرع في تلك الرحلة الطويلة من الشعر والألم والخسارة الشخصية، مسكوناً بهواجس الوطن البعيد بنخيله ومقاهيه وبالفرات ودجلة، قارئاً على آذان الناس بعدها:

ولكنّها بلادي
لا أبكي من القلب
ولا أضحك من القلب
ولا أموت من القلب إلّا فيها.

لم يكن صاحبُ “وتريات ليلية” منشغلاً، على طريقة السياسيّين المدرَّبين، برسم جداريات الخطابة اللائقة التي لا تُزعج أحداً، بل كان محمولاً على قلب الشاعر، شديد الهشاشة والانفعال، يشتم هنا، ويسخر هناك، ويبكي:

أفل الليل
وكبرق في الأفق الشرقي يوازي السعف
يوازي همسات السعف.

الحالة إياها، التي جعلته في ليلة وضحاها، شاعراً بموقف إشكاليّ عندما رحّب بسقوط نظام صدّام حسين، مُدلياً بصوته في أوّل انتخابات تجري في “العراق الجديد”، ثم رافضاً أن يستقرّ في عراق ما بعد الاحتلال.

شكّلت لغتُه المتفرّدة، بكلّ ما تحتويه من اللامألوف في اللغة الشعرية ومفردات الرفض والغضب والتحريض، ميزةً لافتة لتجربته الطويلة، وخصوصاً في الشعر السياسي والعامّي؛ ميزةٌ أثارت العديد من عواصف النقاش بين جماهير المشتغلين بالنقد والأدب حول الملاءمة والأصالة في شعره. لكنّها، في ذات الوقت، جعلت جماهير واسعة تُصغي إلى ما يقوله، قبل أن يصبح علامة ثوريةً فارقة لجيل السبعينيات والثمانينيات يُشار إليه باعتباره منظّراً ومحرّضاً ضدّ أنظمة القمع في المنطقة. يقول في إحدى قصائده:

احترق الخنصر
أعطى ضوءاً عربيّاً
ليس لإصبعي الوسطى في الليل أمان
وأدير على هذي الإصبع حكّام الردّة قاطبةً
سوف أُحدّثكم في الفصل الثالث عن أحكام الهمزة
في الفصل الرابع عن حكّام الردّةِ
أمّا الآن فحانات العالم فاترة
مللٌ يشبه علكة بغي لصقته الأيام بقلبي.

لم يتوقّف مظفّر النوّاب عند هذه الحدود، بل حاول التأصيل أيضاً لجمالية اللغة العامّية وصُوَرها. يقول: “الكلام ضدّ العامية يسود في لغة التنظير، أمّا في لغة الحقيقة فهي أُخرى، بدليل أنّ الذين يهاجمونها يطربون حينما تغنّي أم كلثوم وفيروز بها. يطربون لصورها، ولكنهم حين يتحدّثون عن العامية يتحدّثون بلغة الإدانة، وهذه ازدواجية عجيبة”.

كما لم ينشغل صاحبُ “قُل هي البندقية أنت” أيضاً باقتراح قالبٍ شعريّ محدَّد في إطار انزياح الشعراء إلى نمذجة تجاربهم الشعرية، سيذهب بعيداً في كلّ الممكن من أدواته؛ قارئاً للواقع: “وإذاعات العرب الأشراف تبول على النار”، ومتنبّئاً بما سيأتي، بما تمليه اللحظة الراهنة وبكلّ ما تفعله بقلب الشاعر المسكون بالإنسان وقضاياه:

سيكون خراباً
هذي الأمّة لا بدّ لها أن تأخذ درساً في التخريب.

ومحرّضاً:

أسنِد كوعك للكوّة
أسند كوعك للكوّة يا عبد الله
مدّ الرشّاشة في الفجر الشاحب.

سنرى مظفَّر النوّاب، في ما بعدُ، كهلاً ضعيفاً، يُعينه رجالٌ حوله على الحركة، عبر صُوَر قليلة ونادرة تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي، تستدرّ بكل اقتدار مشاعر التعاطف مع الرجل الذي شكّل، وحتى وقتنا الحاضر، أيقونة في الشعر العربي الحديث، ومَعلَماً شعرياً شاهداً على قسوة التبدّلات السياسية والاجتماعية في المنطقة العربية كلّها.

المصدر: الشادوف+العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.