أحمد حسن الشرقاوي يكتب: مسامير النديم..رصاصات برؤوس الطغاة !

0 861

قبل وفاته في عاصمة السلطنة العثمانية، وبين العامين 1893 و1896، كتب الصحافي المصري الأشهر عبد الله النديم ( شاعر وخطيب الثورة العرابية) آخر كتبه، وسمّاه “المسامير”.

النديم قام بتهريب مسودة الكتاب عبر أحد أصدقائه، واستطاع هذا الصديق الشجاع أن يفر بالمسودة لمصر ويطبعها هناك، فخرج الكتابُ على شكل مقدمةٍ وتسعة أقسام، أو تسعة “مسامير” كما ارتأى صاحبه، فكانت تلك المسامير ” أحدّ من المناشير في قوة تأثيرها” حسب تعبير النديم في كتابه.
ومع أن الكتاب خلا من تاريخ طباعته، إلا أنه من المرجح أن يكون تاريخ كتابة “المسامير” في أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، أي خلال سنوات عمره الأخيرة في الآستانة.
عبد الله النديم (1842-1896)، الملقب بخطيب الثورة العرابية، لم يكن وجوده في عاصمة السلطنة مصادفة، بل جاء بعد سنوات من المطاردة تعرّض لها بعد إخفاق ثورة الزعيم الوطني الكبير أحمد عرابي في العام 1882، والاحتلال البريطاني لمصر عسكرياً.
قضى النديم عشر سنواتٍ منها متخفّياً ومتنقلاً في أنحاء الريف المصري، إلى أن ألقت سلطات الاحتلال القبض عليه ونفته إلى يافا في فلسطين للمرة الأولى، لكن بعد عودته مجددا لمصر، نفته مرة أخرى للآستانة بأمر من السلطان العثماني، لأن النديم لم يتوقف عن مقاومة البريطانيين، والاتصال برجال الحركة الوطنية التي استعادت حيويتها، وإيقاظ الوعي، فأصدر صحيفة “الأستاذ”، مستعيداً بذلك الدور الذي قامت به صحيفته “التبكيت والتنكيت”، ثم “اللطائف” التي كانت لسان حال الثورة العرابية.
في الآستانة، وجنباً إلى جنب مع جمال الدين الأفغاني الذي قرّبه السلطان عبد الحميد للاستفادة من دعوته إلى الجامعة الإسلامية ( الوحدة الاسلامية الجامعة لبلدان العالم الاسلامي تحت راية الخلافة العثمانية) ، عاش شأنه في ذلك شأن الأفغاني في قفص، ولكن قفصه “الحديدي” اختلف عن قفص الأفغاني “الذهبي”.

الحكمة الخالدة تؤكد أن الناس غير متساوين عند أصحاب الأقفاص، كما الأقفاص نفسها، فمنهم من يختاروا له قفصا ذهبيا ومنهم من يقبع فى أقفاص حديدية لا تدخلها الشمس ولا الهواء، وتحديد نوعية القفص يعتمد على مصلحة ومزاج القفاص أو صاحب القفص، أحدهما أو كليهما، لا فرق !!

وجد النديم نفسه عاطلاً عن فعل أي شيء من تلك التي اعتاد أن يفعلها طوال حياته؛ لا مجال لخطابة ثورية، ولا كتابة وتهييج للأفكار، ولا إثارة حماس أحد لأي قضية عادلة حتى القضايا الاجتماعية، التي كان أول كاتب يتناولها في ذلك العصر. أحس النديم أنه صار يعيش في وسطٍ يكاد يكون خانقاً، محاطاً بالجواسيس في كل مكان. البقاء فيه للأكثر فسادا، وللأكثر كذبا ولمن لا يخجل من أفعاله السيئة.. باختصار البقاء للأسوأ في هذا الوسط الموبوء.


وسط يتم فيه كبت الحريات ومنع الهمسات، ناهيك عن الكلام العلني المباح. وسط خانق ينتشر فيه العسس والجبناء والمغفلين ، وسط لم يجد فيه متنفساً إلا في مجلس يجمعه بصديقه القديم جمال الدين الأفغاني.


في هذا الجو الملبد بغيوم الاكتئاب والإحباط، ولدت فكرة كتاب “المسامير”، أو على الأقل ولدت فكرة كتاب ساخر، يهجو فيه هجاءً شديداََ مقذعاً لتلك الشخصية التي اعتبرها النديم مسؤولة عن كل تلك الموبقات، هذه الشخصية تدعى أبو الهدى الصيادي الحلبي، الذي كان ملحقاً بحاشية السلطان عبد الحميد الثاني ويعد واحدا من أهم مستشاريه، وقد امتد نفوذ الصيادي إلى كل أرجاء السلطنة العثمانية، وتوغل في السياسة والإدارة والجيش، واستطاع، كما يقول المؤرخ عبد المنعم الجميعي، البطش بكل صاحب رأي حر في العاصمة الأستانة وفي كافة أنحاء السلطنة العثمانية مترامية الأطراف.
ولأن الصيادي هذا كان يكره جمال الدين الأفغاني بسبب منزلته لدى السلطان عبد الحميد الثاني، التقط النديم هذه الفرصة لاستخدام قدراته وأفكاره التي قام بكبتها طوال سنوات التخفي والهرب داخل مصر، ثم النفي خارجها حيث اشترط عليه المضيفون له فى عاصمة الخلافة العثمانية أن لا يكتب شيئاً يخص سياسة مصر التي يحتلها الانكليز!!


شعر الصحافي المصري الأول فى العصر الحديث بالإهانة والغضب وقلة الحيلة، فعهد بالكتاب الى صديق له هرب به الى مصر وطبعه فى القاهرة بعد موت النديم، وهناك شبه إجماع بين المؤرخين لتلك الحقبة أن النديم لم يعرف قبل موته بأن كتابه تمت طباعته ونشره في القاهرة.
صدر كتاب “المسامير” لعبد الله النديم بعنوان فرعي يقول “رواية الشريف أبي هاشم عن الشيخ مدين أبي القاسم الشهير بالعارف بالله”، تأليف فقيد الأدب والتحرير المرحوم السيد عبد الله أفندي النديم الإدريسي الشهير.
اعتنى بطبعه الشريف ي.ن.هـ. م.”. وتصدرت صفحته الأولى صورة لشخص بعمامة ولحية، وتحتها السطور المنظومة التالية:
هذا الذي كان قبل دخوله / دار السعادة مقرفاً شحاذا
واليوم صورته تبيّن أنه / أضحى بأقبح حيلة أستاذا
ثم تبدأ المقدمة هكذا: “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المنتقم الجبار، القادر القهار، الخافض الرافع، الضار النافع… أما بعد، فقد ظهر الفساد في البر والبحر، وعم الشقاء بلاد الإسلام في هذا العصر، وحاق بأهلها العذاب، وتقطعت بهم الأسباب، واندكّ سور عظمتهم، وتفرّق ما اجتمع من كلمتهم، وتوالت عليهم البلايا، وفعلت فيهم ما لا تفعل المنايا، فذهبت أنفسهم حسرات، ولم تغن عنهم العبرات، حتى كادوا يمحون من صحائف الوجود، ويلحقون بعاد وثمود”.
ويتبيّن القارئ، وهو يواصل قراءة هذا النمط من الكتابة الملتزمة بالسجع سطراً بعد سطر، أن المسمى أبو الهدى الصيادي هو الشخصية التي يمسك النديم بتلابيبها، وهي سبب الفساد والخراب.
وينطلق، على رغم نفوذه وسطوته، في هجائه من دون أن يعبأ باحتمال أن ينتقم منه، فيرميه بمسمار بعد مسمار إلى أن يبلغ التسعة مسامير، وكلها خوض في سيرته وكشف عن دسائسه وتلفيقه التقارير المرفوعة للسلطان، والأكثر فضيحة اتخاذه الدين ستاراً لتنفيذ أغراضه، فأطلق عليه عدداً من الألقاب مثل “المسيح الدجال” و”أبو الضلال” و”ابن صائد”، وما إلى ذلك.
ولم تتوقف سيرة هذا الكتاب عند تهريبه، بعد أن اتصل أبو الهدى بالسلطان عبد الحميد الثاني، وأبلغه بأمره، وزعم أن النديم شمله أيضاً بهجائه، فتشدّد السلطان عبد الحميد الثاني في البحث عن الكتاب ومصادرته، وأرسل شرطته لتفتيش بيت النديم، ولكن لم يقع الكتاب في أيديهم.
حين زار الخديوي عباس حلمي الثاني الأستانة طلب عبد الله النديم السماح له بالعودة إلى مصر، ووافق السلطان لكن النديم لم يعد هذه المرة بسبب وشايات الصيادي تحت الحاح بريطاني خشية من إثارة المصريين ضد المحتلين الانكليز، وجاء الخديوي مرة ثانية الى عاصمة الخلافة العثمانية زائرا، ووافق مجددا على عودة النديم لمصر، بل وركب النديم السفينة مع الخديوي، لكن بسبب وشايات أبي الهدى الصيادي الحلبي أنزلوه من سفينة الخديوي، ولم يتمكن من العودة الى مصر.
في فترة مرضه الأخير، طلب زيارة أمه وأبيه، فجاءوا بهم له من مصر إلى الأستانة، لكن قبل وصولهم كان النديم قد غادر الدنيا في العاشر من أكتوبر من العام 1896، عن عمر يناهز 54 عاماً، ودفن في مقابر بشكتاش فى اسطنبول. ويصر بعض الصحافيين المصريين وعلى رأسهم كاتب هذه السطور على ضرورة استعادة رفات النديم ودفنه فى مصر وإقامة تمثال نصفي له فى مدخل نقابة الصحافيين المصريين في القاهرة.

رحم الله شيخ الصحافيين المصريين فى العصر الحديث وخطيب الثورة العرابية عبد الله النديم.

أحمد حسن الشرقاوي

كاتب صحافي مصري

رئيس تحرير موقع الشادوف الإخباري

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.