“إنهم يتأنقون في ثياب من اللغو المهترئ استعدادا للذهاب إلى عرس الدم، يطلقون الرصاص على كل دعوة لحوار إنساني متحضّر، يعفي المواطن البسيط من أن يلقى مصير الأرانب التي تموت فوق العشب تحت أقدام أفيال متصارعة، لا يشغلها البشر ولا العشب الأخضر، فكل ما يهمها أن تقتل خصمها وتلقى بجثته في النهر… النهر الذى بات مهددا هو الآخر ويواجه مصيرا أكثر بؤسا”.
كان ذلك قبل انقلاب وزير الدفاع على رئيس الجمهورية المنتخب بعشرين يومًا، وبعد أن مرت ثمانية أعوام كاملة، ها هو نهر النيل يتصدّر قائمة ضحايا تلك الجريمة، التي وقعت في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 بعد أن قدمه عبد الفتاح السيسي ثمنًا لاعتراف أفريقي، من بوابة إثيوبيا، بشرعية انقلابه، وإنهاء تعليق عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي، الرافض لمنطق الانقلابات العسكرية.
حين استقبلت إثيوبيا السيسي للحصول على توقيعه على اتفاقية 2015 المعروفة باسم “إعلان المبادئ” الخاصة بمياه نهر النيل، قلت إن دراما رحلة عبد الفتاح السيسي إلى بلاد الحبشة لا تختلف عن رحلة أنور السادات إلى القدس المحتلة، كلتاهما تراجيديا مؤلمة، أفسدت المستقبل، من أجل لحظة نشوة فردية عابرة، وكلاهما عينه على لجنة تحكيم مهرجان الانسلاخ من استحقاقات التاريخ، وبديهيات الجغرافيا.
كلاهما كان يبحث عن ذاته الفردية، ويستدر آهات الإعجاب بالقفزة التاريخية، طلبا لمجد شخصي زائف، تعرف الميديا الغربية جيداً كيف تصنعه، وتقدمه في أغلفة أنيقة لكل مهووس بالعظمة والصور التذكارية، وكما ذهب خمر لقب “بطل الحرب والسلام” برأس أنور السادات، ها هو رأس السيسي يشتعل بجنون عظمة ما أسبغه عليه الإثيوبيون من صفات، عقب إذعانه أمام الحلم الحبشي بسد النهضة، وتقديمه صك الاعتراف المجاني بالسد الذي يضع مصر في فوهة العطش، تماما كما منح السادات صك الاعتراف بالعدو الصهيوني، مخرجا مصر من معادلة الصراع، وبانياً سداً شاهقاً بينها وبين محيطها العربي.
كان السيسي قد سافر إلى الحبشة، تسبقه عناوين تدير الرأس، تصنفه أول حاكم مصري تستقبله أديس أبابا في زيارة ثنائية خاصة منذ ثلاثين عاماً، وتصوره قائداً جسوراً ينسف ألغام التاريخ الشائك، ليتلقفه الإثيوبيون، ويسمعونه ما يدركون أنه مفتون به، فيباغته رئيس الوزراء، في ذلك الوقت، هاي ﻻميريام ديسالين¡ بجملة في منطقته الحساسة “في بلادنا نتفاءل بالزعماء الذين تهطل اﻷمطار عند حضورهم، وأن السيسي حضر وهطلت اﻷمطار في وقت غير معتاد من العام”.
أوجه الشبه بين “كامب ديفيد السادات” و”إعلان مبادئ السيسي” كثيرة ولا تحتاج لمزيد من الأدلة على أن السيسي وضع قضية نهر النيل بتصرف واشنطن، وفي ذلك يمكن الرجوع للمقالة المنشورة للسفير المصري في واشنطن قبل شهور قليلة، والتي تستغيث بالولايات المتحدة لتمنح مصر حصتها من المياه، حتى وصلنا إلى ذلك التصريح المهين لمعنى السيادة الوطنية، والخادش لقيمة استقلال القرار الوطني، والذي جاء على لسان المتحدث الإقليمي باسم وزارة الخارجية الأميركية، صامويل وربيرج، وقال فيه إن بلاده لن تترك 100 مليون مصري بدون مياه.
حسنًا، بهذا التصريح الذي احتفت به الدوائر السياسية والإعلامية المصرية، تصبح قضية مياه النيل بعهدة الإدارة الأميركية، مثلها مثل قضية القدس والمستوطنات، وما نحن إلا طارقي أبواب ومتسولي ضغوط على الطرف الآخر، المتعنت، وهو مدرك أنه ليس أفضل من أن تكون واشنطن هي الحكم والراعي.
كان نهر النيل طوال الوقت من أدوات الضغط السياسي على مصر، وفي ذلك تشير مقالة للدكتور أستاذ الأراضي والمياه، صلاح طاحون، قبل عشر سنوات، إلى أنه ليس ببعيد عن الذاكرة¡ أنه عندما استعصت مصر الناصرية على الولايات المتحدة تحت حكم لندون جونسون، أرسل أفواجا من الخبراء الأميركيين مدفوعي الأجر، انتهوا بمجهود كبير من إعداد تصميمات وخطط تنفيذ 26 من السدود المتفاوتة السعة بامتداد النيل الأزرق، تحتجز أمامها 120 مليار متر مكعب من المياه، تستخدم في الزراعة المروية وتوليد الكهرباء. وعندما صفت الأجواء السياسية نامت سدود النيل الأزرق في أدراج النسيان، إلى حين.
الآن، تتطاير العناوين الضخمة والشعارات المدوية عن أن مياه النيل قضية وجودية، غير أنه على مستوى الأفعال تبدو المسألة وكأنها قضية وجود عبد الفتاح السيسي في السلطة، ومن ثم يصبح النيل عنده مجرد ورقة من أوراق لعبة سياسية، يستعملها لنفسه، ولعل ذلك يفسر تلك الثقة التي تتحرك بها إثيوبيا في الوقت الذي تحدده، وبالإيقاع الذي تريده، وفي الاتجاه الذي تختاره، بينما جنرال الكلام مستمر في مضغ الشعارات وبصقها في وجوه جماهيره الغفيرة، فتشتعل بالتصفيق الحاد.
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري
@@@@@@@@@@@@@@@@@
مقالات الرأي تعبر عن آراء أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية