لماذا يتشبث عبد الفتاح السيسي، أكثر من أي عام مضى، بذكرى 30 يونيو 2013 ويعتبر هذا التاريخ بداية حكمه، فيما يتجاهل أو لا يهتم، أو لا يريد أن يتذكر 3 يوليو من العام ذاته؟ لماذا يصرّ السيسي على أن يسجل الثلاثين من يونيو تاريخ ميلاد انقلابه واستيلائه على السلطة؟
على الرغم من الاحتفال بنجاح عملية إطاحة الرئيس المنتخب في الثالث من يوليو/ حزيران 2013، فإن نظام السيسي اختار أن يكون الثلاثين من يونيو هو عيد جلوسه على العرش، مع الوضع في الاعتبار أن الرواية العسكرية المعتمدة للأحداث كانت تذهب إلى أن الرئيس مرسي لو كان قد وافق على الانتخابات المبكرة قبل الثالث من يوليو، لما كانت هناك حاجة لاختطافه وعزله من الحكم بالقوة، وسجنه، الذي انتهى بقتله فيما بعد.
لماذا إذن يقدّس السيسي الثلاثين من يونيو، ويعتبره يوم عرسه وزفافه إلى العرش، أو بصريح العبارة تاريخ انقلابه على رئيسه، وهو الذي كان يمنّ على المصريين، طوال الوقت، بأنه حمل روحه على كفّه وتقدّم لإنقاذهم يوم 3 يوليو؟
الراجح أننا لسنا فقط بصدد عملية محوٍ للذاكرة القريبة، من أجل إعادة كتابة التاريخ على هوى الجنرال، على النحو الذي يلغي كل الأدوار الأخرى، وإنما أمام لحظةٍ جديدةٍ تلتهم ما قبلها من تواريخ وذكريات، وتعلن مولد مصر من جديد، أو الجمهورية الجديدة بتعبير السيسي، والتي ليس فيها من ملامح الجمهوريات بشيء، بل تكاد تكون نموذجًا لملكيةٍ عسكريةٍ خالصة، لا أدوار فيها لأي مكوناتٍ مدنية، فبعد العصف برموز الرأسمالية الوطنية، جاء الوقت للبدء في التخلص من طبقة الأوليغارشية المهترئة، من رجال أعمال فاسدين، ومسؤولين سابقين منحرفين، لنصل مباشرة إلى حالة الحكم العسكري الصريح الذي تلخصه عبارة السيسي “ضابط على رأس كل قرية”، والتي ربما تتطوّر، مع مرور الوقت، لنجد ضابطًا في كل غرفة نوم، يعدّ أنفاس النائمين، ويسجل كلماتهم وهمساتهم، ويمارس سياسة الضبط والربط على كل تفاصيل حياتهم.
للوصول إلى هذه المرحلة، كان لا بد من أن يورّط السيسي الشعب معه في هذا الاختيار الجديد، وهنا تأتي أهمية إبراز 30 يونيو على حساب 3 يوليو، لكي يكون السيسي قد تولى الحكم استجابةً لمطلب شعبي اكتمل وتبلور في التاريخ الأول، وليس نتيجة رغبةٍ عسكريةٍ عبرت عن نفسها بمفردات ومشاهد عسكرية فوق خشبة مسرح الجلاء العسكري في التاريخ الثاني (الثالث من يوليو 2013). وبذلك تكون عسكرة القرية المصرية إرادة جماهيرية، وليست شبقًا عسكريًا للسلطة والثروة معًا.
في هذه الهستيريا المتصاعدة احتفالًا بالدولة الجديدة (الملكية العسكرية)، لا بأس من فقرات أكروباتية يؤدّيها برشاقة راقص باليه أشخاص بحجم ووزن عماد الدين أديب وإبراهيم عيسى، فيعلن الأول أنه حان الوقت لشطب 23 يوليو 1952 من التقويم باعتباره العيد القومي لمصر، وتثبيت 30 يونيو 2013 مكانه، لأنه، على حد نعيقه الفضائي، “هو يوم ثورة الشعب التي خرج فيها 33 مليون مصري دون توجيه، بحثُا عن حريته”. كما أن “ما قام به الجيش المصري، بقيادة وزير الدفاع آنذاك المشير عبد الفتاح السيسي، كانت إنقاذَا تاريخيًا ونقلة نوعية، ونحن الآن في بدايات تشكيل مصر القوية من الداخل وعلى المستوى العالمي”.
وبناء عليه، لا بد أن يقبل المصريون بضابط حاكمًا على كل قرية، وكل نجع وكل عزبة، بما يذكّر بأوضاع الريف المصري في عصر الاحتلال البريطاني، حين كان الحاكم العسكري هو سيد القرى.
في هذه الحالة، وردًا على الصول عماد أديب، قد يتفلسف أحد فيقول إن الجيش استولى على السلطة بانقلاب على حكم مدني منتخب، وهنا يأتي دور إبراهيم عيسى لتقديم فقرته الأكثر رشاقة، فيعلن في الفيلم الذي أعدته المخابرات العسكرية “القرار… قرار شعب” احتفالًا بذكرى رضوخ الجيش للإرادة الشعبية في 30 يونيو والاستيلاء على السلطة، أن الانتخابات التي جاءت بالرئيس مرسي كانت مزورة، وبالتالي لا غضاضة في اختطاف الحكم وقتل كل المعترضين على تلك الخطوة المباركة.
من الممكن بسهولة التذكير بأن الجيش الذي يريدون فرض سيطرته على القرى والنجوع هو الذي أشرف على تنظيم الانتخابات المزوّرة، ثم احتفل بتسليم السلطة، مرّتين، للرئيس الفائز في الانتخابات المزوّرة، وأعلن على لسانه قائده في ذلك الوقت، المشير حسين طنطاوي، إن هذا يوم عظيم في تاريخ مصر، ثم أدّى التحية العسكرية للرئيس الذي جاء بانتخابات مزوّرة، ثم أطلق 21 طلقة في الهواء احتفالًا بتنصيبه. لكن ذلك كله ليس مهمًا، في لحظة إعادة كتابة التاريخ، بما يناسب فرض العسكرة كالماء والهواء في كل مترٍ على أرض مصر، وبما أن المطلوب هو عسكري لكل قرية، فلا بأس أن يردّد إبراهيم عيسى، بصوت توفيق عكاشة، إن “الإخوان زادوا أدوار المنازل داخل القرى، واحتلوا المناصب في الوظائف الحكومية، وأن الإخوان أول ما سقطوا في الريف المصري، وحجم التذمر والرفض سبق العاصمة على المصطبة لأنهم اكتشفوا أن هذه الجماعة ضلالية”.
والحل بالطبع، وكما يريد منتج الفيلم ومخرجه، هو تطهير القرية المصرية من حكم الإخوان، وتلك مهمةٌ لا ينفع فيها سوى سياسة “ضابط لكل قرية” وعسكري على باب كل دار، وكل غرفة نوم إن أمكن، للسيطرة على الزيادة السكانية.
أي إهانةٍ لمصر، وأي إهانةٍ للعسكرية المصرية، حين تقوم بالأدوار ذاتها التي سمعنا عنها في دنشواي وغيرها من قرى مصر، حين كان الانجليز يحكموننا!
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري
@@@@@@@@@@@@@@@@@
مقالات الرأي تعبر عن آراء أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية