على مدار العقد الماضي أنفقت الحكومة المصرية مبلغا يصل لنحو 45 مليار دولار على شراء الأسلحة عبر صفقات ضخمة تنوعت بين ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا الى جانب الولايات المتحدة فيما لم يتمكن هذا السلاح من ردع دولة مثل اثيوبيا، أو يدفعها حتى للتخفيف من مواقفها الهادفة للاستيلاء على مياه النيل التي تعد مسألة وجودية تقع في صميم الأمن المصري.
وجاءت أحدث الصفقات العسكرية باقتراب مصر من إتمام شراء طائرات مقاتلة من إيطاليا تصل قيمتها لنحو ثلاثة مليارات يورو، في صفقة يجري التفاوض بشأنها منذ 3 سنوات. وتشمل الصفقة التي تنتظر تأكيدا نهائيا عبر الهاتف من رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دارغي للجنرال المصري عبد الفتاح السيسي، والتي تتضمن شراء مصر 24 طائرة يوروفايتر تايفون من إيطاليا.
وتمثل صفقة بيع الطائرات الحربية، جزءاً من صفقة أسلحة تقدّر قيمتها بين تسعة وعشرة مليارات يورو، مما يجعلها أكبر عملية شراء أسلحة في تاريخ مصر.
ومن المقرر أن تحصل شركة الطيران والدفاع الإيطالية “ليوناردو” على نحو 60 في المائة من سعر الطائرات البالغ ثلاثة مليارات يورو، وهي طائرات حربية ينتجها تحالف أوروبي يجمع شركات من إيطاليا، وبريطانيا، وألمانيا، وإسبانيا.
وكانت المفاوضات مع الجانب الإيطالي التي بدأت عام 2020، قد شهدت معارضة إيطالية داخلية للصفقة بسبب تعطيل السلطات المصرية للتحقيق في مقتل طالب الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني في القاهرة عام 2016 على أيدي عناصر أمنية مصرية.
وجاء الكشف في تقرير نشرته صحيفة “إيل فاتو كوتيديانو” الإيطالية عن الصفقة الجديدة، بعد أيام قليلة من إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، أن الخارجية الأميركية وافقت على بيع طائرات هليكوبتر وعتاد متصل بها لمصر، في صفقة تبلغ قيمتها نحو 2,6 مليار دولار، موضحة أن مصر كانت قد طلبت شراء 23 طائرة هليكوبتر “شينوك 47-إف”.
ولطالما روّجت الأذرع الإعلامية التابعة للنظام المصري، طوال الفترة الماضية، بأن مصر تقع في منطقة ملتهبة من العالم وتمر بتحديات وجودية كثيرة، أبرزها سد النهضة، وذلك تبريراً لصفقات السلاح المتعددة التي جعلت مصر تتصدر قائمة الدول الأكثر استيراداً للأسلحة منذ وصول السيسي للحكم في العام 2014 عبر انتخابات صورية تمت بعد قيادته لانقلاب عسكري يوم 3 يوليو 2013 ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيا الدكتور محمد مرسي.
ووفقا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” (SIPRI) -وهو مؤسسة بحثية معروفة في السويد- فإن مصر أصبحت ثالث أكبر مستورد للسلاح في العالم في العام 2020؛ وذلك بعد السعودية والهند.
ووفقا لتقرير معهد سبري بالسويد فإن مصر أنفقت ما يقرب من 44 مليار دولار على شراء السلاح خلال العقد الماضي، وعلى مدار السنوات الثماني الماضية عقد السيسي العديد من صفقات السلاح مع الدول الكبرى مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وروسيا والتي حققت في بعض الحالات أرقاما قياسية لشركات تصنيع وبيع السلاح في تلك البلدان.
على سبيل المثال، أصبحت مصر ثاني أكبر مستورد للسلاح من فرنسا بنسبة وصلت إلى 20 % من مبيعات السلاح الفرنسي للخارج وذلك خلال الفترة من 2016 إلى 2020. فعلى سبيل المثال عقدت مصر صفقة لشراء أسلحة فرنسية بمبلغ وصل إلى حوالي 5.8 مليارات دولار في فبراير/شباط عام 2015 شملت شراء 24 طائرة رافال مقاتلة وفرقاطة بحرية.
وفي مايو/أيار 2021 وقعت مصر عقدا لشراء 30 طائرة رافال أخرى بمبلغ يصل إلى 4.5 مليارات دولار؛ وهو ما جعلها ثاني أكبر دولة في العالم تمتلك أسطولا من طائرات الرافال المقاتلة بعد فرنسا. أما اللافت في الأمر فإن تمويل الصفقتين تم من خلال قروض وديون خارجية لمصر سواء للحكومة أو للبنوك الفرنسية.
مثال آخر هو صفقات السلاح التي عقدها السيسي مع ألمانيا والتي جعلت مصر أكبر مشتر للسلاح الألماني خلال عام 2021. فوفقا لتقرير صادر عن وزارة الاقتصاد الألمانية، فإن مصر اشترت سلاحا من ألمانيا بما يوازي 4.8 مليارات دولار وهو أكبر مبلغ لصادرات السلاح الألماني لبلدان من خارج دول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وفق التقرير. وشملت صفقات السلاح مع ألمانيا أسلحة بحرية وجوية.
أما الحالة الثالثة فتتعلق بصفقات السلاح مع إيطاليا والتي وصلت أيضا إلى مستويات قياسية. فقد أصبحت مصر ثاني أكبر مستورد للسلاح الإيطالي خلال الأعوام الأخيرة وذلك بعد أن وقعت الحكومة المصرية صفقات سلاح مع روما بما يتراوح ما بين 10-12 مليار دولار تشمل فرقاطات بحرية وغواصات وأقمارا صناعية عسكرية ومؤخرات طائرات حربية من طراز يوروفايتر تايفون.
كذلك عقدت مصر صفقات سلاح مع روسيا بمليارات الدولارات. ووفق تقرير “معهد ستوكهولم الدولي” فقد زادت مشتريات السلاح المصري من روسيا بحوالي 430 % خلال آخر 6 سنوات. علما أن روسيا أيضا تبني محطة “الضبعة” النووية والتي تصل تكلفتها إلى حوالي 25 مليار دولار؛ أكثر من ثلثيها قروض من روسيا.
ولا يمكن أن ننسى هنا صفقات السلاح من أميركا والتي كان آخرها في يناير/كانون الثاني الماضي، حيث وافق البيت الأبيض على بيع سلاح لمصر بمبلغ 2.5 مليار دولار. ناهيك عن المساعدات العسكرية السنوية لمصر والتي تقدر بحوالي 1.3 مليار دولار.
شراء السكوت الغربي مقابل صفقات للسلاح
وفي مقابل مليارات الدولارات التي تم إنفاقها على السلاح خلال أقل من عقد، فقد زاد حجم الفقر والفقراء في مصر خلال نفس الفترة ووصل إلى مستويات قياسية أيضا. فحسب العديد من التقارير الدولية فإن ما يقرب من ثلثي الشعب المصري (أي حوالي 60 مليون نسمة) يعيشون تحت خط الفقر.
ومن يتابع صفقات السلاح والمبالغ الهائلة التي أنفقت عليها خلال السنوات الماضية، يعتقد أن مصر قد أصبحت قوة عظمى أو أنها على وشك الدخول في حرب خارجية مع عدو قريب. في حين أن واقع الحال يشير إلى أن كل هذا السلاح ليس له سوى هدف واحد وهو شراء الولاء السياسي للدول الغربية وذلك من أجل ضمان سكوتها على الانتهاكات المروّعة لحقوق الإنسان التي تحدث في مصر. وهو ما يبدو جليا في مواقف بلد مثل فرنسا التي رفض رئيسها إيمانويل ماكرون صراحة وبكل وقاحة ربط مبيعات السلاح لمصر بملف حقوق الإنسان. بل ومنح السيسي وسام “جوقة الشرف” وهو أرفع وسام فرنسي في ديسمبر/كانون الأول 2020.
وفي أول تعليق رسمي على إعلان إثيوبيا بدء عملية الملء الثالث لخزان سد النهضة الإثيوبي الصيف الحالي، أكد السيسي أن بلاده لم تدخل في صراع من أجل زيادة حصتها من مياه النيل. وقال إن “حصتنا تقدَّر بـ55 مليار متر مكعب، ولم تتغير على مدار السنين الماضية، منذ أن كان عدد السكان ثلاثة أو أربعة ملايين نسمة وحتى الآن”.
وأضاف: “لم ندخل في صراع مع أشقائنا الأفارقة من أجل زيادة هذه الحصة، عملنا على تعظيم مواردنا والحفاظ على كل قطرة مياه، من دون مبالغة، من أجل مواجهة التحدي، وهو فرصة وليس عائقاً؛ لذا عملنا برامج لمعالجة المياه معالجة ثلاثية متطورة”.
تصريحات السيسي الأخيرة وصفها مراقبون بأنها بمثابة شهادة بعدم احتياج الدولة المصرية لهذا الكم الهائل من الأسلحة التي تقوم السلطات بشرائها في الوقت الراهن، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية التي تضرب مصر، ودفعت إلى ترشيد الإنفاق الموجّه إلى بعض المشاريع القومية المهمة، وكذلك تخفيض الدعم المقدّم من جانب الدولة على بعض السلع والخدمات الخاصة بمحدودي الدخل.
وعلّق مصدر دبلوماسي مصري رسمي على تعدد صفقات السلاح منذ وصول السيسي للحكم، قائلاً: “كانت هناك صفقات ملحّة تتعلق بقطع الغيار والصيانات الخاصة ببعض النوعيات من الأسلحة، إلا أن الغالبية العظمى كانت بمثابة فواتير يتم تسديدها لشراء مواقف دولية”.
وأضاف: “في بادئ الأمر كانت هناك صفقات أسلحة مموّلة من دول خليجية لصالح مصر من أجل شراء شرعية للنظام الذي جاء بعد الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، وسط مقاطعة دولية في بادئ الأمر”.
وتابع: “بعد ذلك تحوّل الهدف من وراء الصفقات، إلى تهدئة أزمات سياسية ودبلوماسية، مثل ما حدث مع الجانب الإيطالي الذي فشلت كل المحاولات في ثنيه عن المطالبة بملاحقة قيادات أمنية مصرية رفيعة في مقتل الناشط جوليو ريجيني تحت التعذيب، قبل أن تهمس أطراف دولية في أذن القيادة المصرية بشأن صفقات السلاح، وما يمتلكه لوبي الشركات العاملة في ذلك المجال من قوة ونفوذ يمكنه من تحويل المواقف المتعلقة بالملفات المختلفة”.
وحول ما رُوِّج له في أعقاب الكشف عن الصفقات الجديدة بأنها تأتي في إطار محاولات تغيير مواقف الدول الكبرى العاملة في سد النهضة، وعلى رأسها إيطاليا الممثلة بشركة ساليني، المقاول الرئيسي في المشروع، نفى مصدر خاص صحة هذا الدفع، وأكد أن ملف المشاركة الإيطالية في تمويل السد طُرح أكثر من مرة بين الحكومتين، وعندما وجدت مصر أن الطريق مسدود بشأنه، توقفت عن ذلك منذ فترة ليست بالقصيرة واكتفت بشراء الرضا الأميركي، على أمل الضغط على أديس أبابا.
وبالإضافة إلى أوروبا وأميركا، توسعت مصر في صفقات السلاح، لتشمل دولاً آسيوية، من بينها كوريا الجنوبية. وأعلنت القاهرة وسيول، في فبراير/شباط الماضي، إبرام اتفاق بينهما يقضي ببيع أسلحة مدفعية من طراز “كيه-9 هاوتزر” للجيش المصري، بالإضافة إلى تصنيعها محلياً. وتُقدّر قيمة الصفقة وفق كوريا الجنوبية بنحو 1,66 مليار دولار.
وجاء الاتفاق المصري-الكوري الجنوبي، بعد أيام من موافقة وزارة الخارجية الأميركية على صفقتي معدات عسكرية لمصر بقيمة 2,56 مليار دولار تشمل 12 طائرة نقل “سي-130 جيه سوبر هيركيوليز” ومعدات أخرى تابعة لها وأنظمة رادار للدفاع الجوي.
ويؤكد الباحث السياسي المصري الدكتور خليل العناني أن من يتابع صفقات السلاح والمبالغ الهائلة التي أنفقت عليها خلال السنوات الماضية، يعتقد أن مصر أصبحت قوة عظمى أو أنها على وشك الدخول في حرب خارجية مع عدو قريب. في حين أن واقع الحال، وفقا للعناني، يشير إلى أن كل هذا السلاح ليس له سوى هدف واحد وهو شراء الولاء السياسي للدول الغربية وذلك من أجل ضمان سكوتها على الانتهاكات المروّعة لحقوق الإنسان التي تحدث في مصر.
ولذلك فإن هذه البلدان لا تقدّم فقط الدعم السياسي لأحد أكثر الأنظمة التي حكمت مصر سلطوية وفسادا في تاريخها الحديث، ولكنها شريكة أيضا، كما يقول العناني، في إفقار الشعب المصري من خلال الاستيلاء على أمواله وقوت يومه.
المصدر: الشادوف+وكالات+صحف