اختلاف المناخ في مصر بين برودة الشتاء وحرارة الصيف أدى إلى تنوع المحاصيل الزراعية بها، فهي تجمع بين المحاصيل المدارية الحارة والمعتدلة الدفيئة وحتى الباردة، ففي مجال الفاكهة تجمع بين الموز والمانجو والبرتفال والتفاح، ويُزرع بها من المحاصيل الغذائية القمح بجانب الذرة والبقوليات والأرز، وتتفرد مصر بزراعة محصولي القصب والبنجر السكريين على السواء
ويعطى مناخ مصر الجاف بسمائها الصافية، وشمسها المشرقة، ونيلها الفياض ميزة نسبية لمحاصيلها الزراعية تتفوق بها على كل محاصيل العالم، فعلى سبيل المثال أدى انخفاض نسبة الرطوبة الناتج عن جفاف أجوائها إلى أن يكون قمحها هو الأجود على مستوى العالم، ومن يقطن الريف المصري ويصنع خبزه من القمح البلدي يلحظ ذلك جيداً مقارنة مع غيره من المخبوزات الأخرى التي يكون طحينها من القمح المستورد .
إما عن قصب السكر الذي تجود زراعته في صعيد مصر لتوافر الأجواء المناسبة لنموه من ارتفاع لدرجة الحرارة، والأرض الطينية الخصبة، والمياه الوفيرة ( لا يحتاج ري القصب إلى ما يعرف بالحوال الذي يضبط إيقاع حركة المياه فيسد حوضاً قد امتلأ ويفتح آخر يريد ملؤه بل تُطلق فيه المياه لفترات طويلة )، ولا تقتصر أهميته على العائد المادي المجزى له، بل له من المزايا التي لا يمكن حصرها فضلاً عن عدها مُهدد بالانحصار بعد الانتشار، والاحتضار بعد الازدهار لاحتياجه لمياه غزيرة سوف تقل وتنقص، وتخف وتجف، بعد أن كانت تزيد وتفيض بعد كارثة سد النهضة المزمع بعزم إنشاؤه بل وقارب تنفيذه على الانتهاء. .
فعوائد زراعة قصب السكر لا تقتصر على زارعه، بل تشمل طوائف عديدة من الناس تشارك في شحنه ونقله وتصنيعه بالإضافة إلى استيعابه لأيدي عاملة كثيرة .
وتمر زراعة القصب بمراحل عديدة أولها مرحلة غرس المحصول أو ما يُطلق عليه الرَميّة، وهى تتم كل أربع أو خمس سنوات تبعاً للخلفة حيث يتم التعقير أو التخليف من أربع إلى خمس مرات وهذا يتم في شهر أكتوبر في حالة القصب الخريفي ونظراً لطول فترة النمو يتم تحميل محصول القصب بمحصول الفول أوالقمح أو الطماطم الشتوى، وفى شهر إبريل في حالة القصب الربيعي ويمكن تحميل محصول الذرة مع القصب، والملوخية المحملة على القصب الربيعي لها نكهة مميزة وطعم خاص .
وتأتى بعد ذلك مرحلة تربيط المحصول وهو في الغالب يكون في شهر أغسطس بغرض عدم وقوعه أو تعدى المارة عليه بقلعه الذي يؤدى إلى عدم وجود خلفة للعود المخلوع من جذوه ، وحتى يسهل كسره في مرحلة الكسر.
أما مرحلة الكسر فهي موسم القصب وفيها تعمل مصانع السكر أو ما يطلق عليه المزارعون الفواريكا، وهى مشتقة من الفعل الإنجليزى Fabricate والفرنساوي ( Fabriquer ) والاثنان بمعنى يصنع، وهو يمتد من منتصف شهر ديسمبر حتى آخر شهر مايو، وفيه تعمل الكثير من الأيدي العاملة في مراحله المختلفة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويتم تحديد ميعاد الكسر لكل حقل من قبل شركة السكر عن طريق مكاتبها المنتشرة في كل أنحاء مزارع القصب وهى ترتبط بالكمية التي يحتاجها المصنع من ناحية، وجاهزية القصب للكسر من ناحية أخرى من حيث العمر الزمنى ونسبة الحلاوة من العينات التى يحصل عليها المصنع ويتم تحليليها من كيميائي المصنع .
عملية شحن القصب : يتم الشحن إما عن طريق عربات قطارات الديكوفيل التابعة للمصنع والمخصصة لنقل القصب إلى حيث صناعته، وهى ما تعرف بالتخصيصة أي تخصيص عربات الشحن من قبل المصنع، ومن عيوب النقل بقطار الديكوفيل هو قلة تخصيص عرباته وعدم استيعابه لمحصول القصب بالإضافة إلى نقل القصب مرتين مرة إلى سكة القطار “الوحسة” والمرة الثانية شحنه مرة أخرى بعربات القطار، وإما عن طريق الجرارات الزراعية التى يمتلكها الأهالى وهى تُسمى بالكارتة و تذهب بمقطوراتها للغيط نفسه ويتم الشحن فيه. .
عربجى القصب : وهو الذي يقوم بشحن عربات القصب سواءً في عربات قطارات الديكوفيل أو جرارات الأهالي، وهى مهنة تجتذب الكثير من الأيدي العاملة وتحتاج بجانب المجهود الكبير المهارة في حمل القصب وترتيبه بوضع معين على المقطورة، ويتعامل العربجى بالطن ويستطيع تحقيق عائد يومي مستمر طوال فترة الكسر قبل شروق الشمس حيث يبدأ الشحن في العادة من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد شروق الشمس، ويستطيع بعدها ممارسة عمله الخاص (يقوم البعض الخالي من العمل بتطبيق يومية أخرى في كسر القصب و ويحصل على غذاء مواشيه مجاناً كما سوف نوضح)
القلوح : وهو زعزوعة القصب الخضراء التي يتم التخلص منها في عملية كسر القصب، وهى غذاء جيد للمواشي، وفى ظل الارتفاع المتوالي في أسعار العلف المصنع وزيادة تكلفة زراعة محاصيل غذاء المواشي وما يستتبع ذلك من ارتفاع أسعار اللحوم ومنتجات الألبان، لا يحصل المُربى البسيط للمواشى فى نواحى زراعة القصب على غذائها بشكل مجاني فحسب، بل يحصل على أجر في حقول القصب ويحصل على قلوح ما كسره من القصب، وهكذا يكون غذاء المواشي في بيئة القصب مجانياً، ترتفع أسعار المواشي في موسم الكسر لحرص المربى على اقتنائها للاستفادة بالقلوح المجاني في تربيتها وبالطبع تزيد كمية الألبان ومنتجاتها في ذات الفترة، وهناك أسواق عديدة رائجة للقلوح تجتذب إليها الكثير من التجار .
ولا يعانى الذين لديهم أفران بلدية من نقص الوقود النباتي فمخلفات القصب كثيرة وهى تسمى بالسفير أو الحم، وتوافر لدى الأجداد وقود الطهي النباتي بكثرة وليونة ويسر قبل اختراع وسائل الطهي الحديثة، فبقايا جذور القصب بعد انتهاء الخلفة وحرثه كان يوفر الوقود الكثير الذي لا يحتاج لبلطة لتكسيره على نحو ما هو معروف في حطب الأشجار..
ولقد أمكن لمجموعة من الشباب استغلال مخلفات القصب والذي يتم حرقه في تصنيع العلف منه ، وفى حالة التطبيق يعطى فدان القصب عائد إضافي.
ولزراعة القصب فائدة كبرى تتعلق بالأرض الزراعية نفسها فهو يعطى لها خصوبة ومتانة، ويقضى على النباتات الطفيلية، ولذلك يحرص مزارعو الطماطم على استئجار الأرض التي كانت مزروعة بالقصب وهى تزيد في إيجارها بنسبة 40% وتسمى في هذه الحالة بالطماطم البكر
وبالطبع قصب السكر هو المادة الخام الأساسية التي تقوم عليها قلاع مصانع السكر المنتشرة في صعيد مصر والتي تختلف عن أي مصانع أخرى، فكل مصنع عبارة عن مدينة متكاملة بخدماتها الصحية والتعليمية والترفيهية, على سبيل المثال مصنع دشنا والموازي لخط السكة الحديد يمشي القطار أمامه مسافة طويلة جداً حتى يبلغ منتهاه بالطول، أما عرضه فهو إلى حد مرمى البصر .
خريطة توزيع قلاع مصانع السكر بمدن الصعيد: في محافظة أسوان يوجد مصنع كوم امبو وهو الأضخم الذي يجمع محصول مركزي كوم امبو ودراو، ومصنع ادفو الذي يجمع محاصيل مركز ادفو والقسم الجنوبى من مركز إسنا ، وفى محافظة الأقصر يوجد مصنع أرمنت ويجمع محاصيل القسم الشمالي من إسنا وأرمنت والأقصر غرب، وفي قنا مصانع سكر قوص الذي يجمع محاصيل إسنا والأقصر شمالاً وقوص وقفط ونقادة غرب النيل ، ومصنع سكر دشنا الذي يجمع محاصيل دشنا ونجع حمادي شرق النيل، ونجع حمادي وهو الثاني في الضخامة بعد كوم امبو، ويجمع محاصيل نجع حمادي وفرشوط وابو طشت ، ويوجد في سوهاج مصنع جرجا الذي يجمع محاصيل البلينا وجرجا ، ويوجد فى المنيا مصنع في أبو قرقاص يخدم زراعة القصب في ملوى وديرمواس وأبو قرقاص .
وتخلو محافظة أسيوط بصعيد مصرالجنوبى من زراعة القصب وتأتى محافظة قنا فى المقدمة في عدد مصانعها حتى بعد استقلال الأقصر بمصانع أرمنت منها، فيوجد بها ثلاثة مصانع بعد أن كانوا أربعة
وبجانب تلك القلاع الصناعية عالية التكنولوجيا وكثيفة العمالة والتي تجمع بين الصناعة الغذائية والصناعة الكيميائية (يتميز محصول القصب بكثرة مشتقاته وتنوعها ويتم الاستفادة من كل شئ منه حتى حبيبات الطمي العالقة بعود القصب )، تنتشر الصناعات الصغيرة القائمة على السكر بشكل واسع في منطقة نجع حمادي بقنا وتتمثل أساساً في العسل الأسود وحلاوة الجلاب ويتم توريدها لجميع أنحاء الجمهورية. ) .
ويحرص الوجهاء والأعيان من ملاك الأراضي الزراعية على تزيين مضيفتهم بشهادات التفوق الصادرة من مصانع السكر ويتباهون بكمية القصب الموردة للمصنع والمذكورة بالطبع في تلك الشهادات، كما إن اقتناء سلم القصب المركون على ناحية ظاهرة هو مصدر فخر واعتزاز لمزارع القصب. .
وللقصب مشاكله العديدة من حيث زيادة تكلفة كسره وشحنه، والمتمثلة في ارتفاع تكلفة الزراعة لارتفاع مستلزمات الزراعة من سماد وعمالة، وارتفاع تكلفة النقل لارتفاع أسعار المحروقات، ويأتي تطفيف مصانع السكر في وزن القصب المورد إليها على رأس تلك المشاكل، وأيضاً تعرض القصب للسحب من قبل المارة من عربات قطارات الديكوفيل والتي يتحملها المزارع، وتأتى السياسة الحكومية التي تفتح باب الاستيراد على مصراعيه للسكر الأجنبي على الرغم من جودة سكر القصب المصري المعروفة عالمياً مما أدى لتكدس الإنتاج المصري في المخازن على حساب المستورد ومصلحة المستوردين
والقصب كالجبل مهبط الذئاب وموئل المطاريد ، وظهر مصطلح الحزام الأمني إبان حقبة التسعينات من القرن المنصرم أثناء حوادث الإرهاب، وهو حزام يمتد على طول مزارع القصب التي تطل على الطرق السريعة على مسافة 20 متر، واستخدم قبل ذلك وفى أواخر السبعينات الخط الصعيدى الأشهر “الشاطر على ” إبن دشنا البارع في الإجرام والباغى فى سفك الدماء والذى حَيّر الحكومة وكان نشاطه يمتد من مزارع القصب من قنا في دشنا لأسوان في كوم امبو في اصطياد غرمائه، وحاصرته فرقة كاملة من قوات الأمن في حوشة قصب، والحوشة هى مساحة من مزارع القصب تزيد عن مائة فدان تُروى من قناة واحدة فى الأراضي التى تُسقى سنباطى، واقتحمت الحوشة بعد إحراق مزارع القصب، ولكنه استطاع الإفلات منهم عن طريق التسلل من ماسورة المياه رى إلى الحوشة الثانية، وكما كانت مزارع القصب هي الميادين المثالية للمعارك الدموية الشرسة التي كانت تنشب بين قبائل هوارة والعرب بقنا .
والقصب والموز والأرز هم الثلاثي المائي تستهلك في زراعتها ماء أكثر من غيرها من المحاصيل، ولكن عائدها مجز، وأرباحها وفيرة، فبعد التدهور الذي أصاب محصول القطن المصري المعروف في الأسواق العالمية بنصاعة بياضه، ومتانة خيوطه، ونعومة ملمسه، وفوائده الأخرى من زيوت بذوره، ومخلفاتها المستخدمة في العلف فمن تداعيات انهياره اعتمادنا بنسبة أعلى من 90% على الزيوت المستوردة الرديئة، ونقص حاد في العلف ترتب عليه مشاكل في اللحوم ومنتجات الألبان.
الدور الآن على قصب السكر بكثرة عملياته في زراعته (مناطق زراعة القصب تعاني من أزمات حادة في العمالة في موسم كسر القصب)، ومصانعه العريقة التي لم تسطع حتى يد الخصخصة التلاعب بها، وستنقرض مع غياب مزارع القصب محلات عصير القصب وسيشرب عاشقو عصير القصب بعد اختفائه من البحر إذا تبقى منه شئ يشربونه بعدما أفله السد الباغي البازغ.
محمد محمود السعدني
أديب وروائي مصري
وكيل وزارة بالتربية والتعليم بمصر سابقا
الآراء الواردة فى المقال تعبر عن صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن موقع الشادوف أو تمثل سياساته التحريرية