الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
سألني سائل فاضل عن جريمة شنعاء أثارت مشاعر الرأي العام في مصر؛ عن أم ألقت طفليها في النيل! فغرق أحدهما ونجا الآخر. فما حكم هذه الأم شرعاً؟ هل يقتص منها لقتلها أحد طفليها؟
الجواب
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الأنعام ـ 151. وقوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا) النساء ـ 93. وقوله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) البقرة ـ 178 ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة ـ 179.
من منطلق هذه هذا الذكر الحكيم أقول:
بالنسبة لحكم قتل الوالد لولده فإنها مسألة مسطورة في كتب الفقهاء قديما وحديثاً وذكرتها بالتفصيل في كتابي القصاص. على أية حال أقول وبالله التوفيق باختصار:
هناك عدة أقوال للفقهاء في حكم قتل الوالد لولده على النحو التالي:
القول الأول: ألا يقتل والد بولده مطلقاً.
القول الثاني: أن يقتل الوالد بولده إذا أضجعه ليذبحه.
القول الثالث: أن يقتل والد بولده مطلقاً.
أما بالنسبة للقول الأول: فهو رأي الجمهور؛ الأحناف والشافعية والحنابلة. مستندهم في ذلك حديث (لا يقاد الوالد بولده)، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي والدارقطني وغيرهم. ومرويات أخرى. وقد صححهه الشيخ الألباني. وقد تتبع الحافظ الزيلعي أسانيد هذا الحديث ضعفاً وصحة؛ ولمن أراد المزيد فليراجع كتابي القصاص. وقد علل الفقهاء ذلك بأن الوالد كان سبباً لإحياء ولده فكيف يكون سبباً لإفنائه؟!. ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: هذا حديث مشهور عند أهل العلم في الحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكون الإسناد فيه تكلفاً مع شهرته.
مع التنبيه أن هذا الحكم يشمل الأب والجد والأم والجدات. فلا يجوز عند الجمهور قتل الوالد بولده وولد ولده وإن سفلوا.
أما القول الثاني: أن يقتل الوالد بولده إذا أضجعه ليذبحه:
وهو قول المالكية حيث قالوا: يقاد الأب من ابنه إذا أضجعه فذبحه رغم أنهم يتفقون مع أصحاب المذاهب الأخرى في قاعدة (ألا يقاد والد بولده) ويلخص لنا ابن رشد هذا الاختلاف بين المالكية وأصحاب المذاهب الأخرى: “فقال مالك: لا يقاد الأب بالابن، إلا أن يضجعه فيذبحه فأما إن حذفه بسيف، أو عصا فقتله لم يقتل به، وكذلك الجد عنده مع حفيده. وقال أبو حنيفة، والشافعي والثوري: لا يقاد الوالد بولده ولا الجد بحفيده إذا قتله بأي وجه كان من أوجه العمد؛ وبه قال جمهور العلماء. وعمدتهم: حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقاد بالولد الوالد). راجع كتابي القصاص.
أما القول الثالث: يقتل الوالد بولده مطلقاً:
هذا رأي بعض العلماء المعاصرين الذين تأثروا برأي المالكية؛ فأخذوا صورة الوالد الذي أضجع ولده ليذبحه عند الإمام مالك وجعلوها عامة في كل صور قتل الوالد لولده! فخالفوا الإمام مالك في شرطه وقيده وأيضاً خالفوا رأي الجمهور!.
الرأي المختار
أرى أن الرأي القائل بعدم قتل الأب بولده هو الصواب والأقرب إلى روح الشريعة للأسباب التي ذكرها جمهور الفقهاء. إذا كانت العقوبة لشفاء غيظ المجني عليه فهل سيتحقق هذا الشفاء في قتل الوالد بولده؟! فالذي سيقتص هنا الابن الآخر للقاتل وشقيق القتيل معنى ذلك أن الإبن سيفقد أباه وأخاه دفعة واحدة فتكون الخسارة خسارتين!!
كما أرى: في حالات خاصة يمكن الأخذ برأي المالكية كأن تقتل الأم ابنها بعدما يضبطها متلبسة مع عشيقها في غياب والده ومن ثم تتآمر معه للتخلص من ابنها حتى لا يفضحها مع زوجها!! فمثل هذه الأم لا تستحق حماية رأي جمهور الفقهاء بل إن رأي المالكية هنا أولى بالاعتبار. والله أعلم.
صفوة القول
بعد هذا التطواف السريع حول آراء الفقهاء حول قتل الوالد لولده والرأي المختار كما ذكرت آنفا.
إذا أنزلنا ذلك على سؤال السائل الكريم عن المرأة التي ألقت طفليها في النيل فغرق أحدهما ونجا الآخر.
أقول ينبغي عرض المرأة المتهمة على هيئة طبية مختصة لكشف قواها العقلية؛ فإذا تبين أنها فعلت فعلتها، واقترفت هذه الجريمة الشنعاء بكامل إرادتها وقواها العقلية؛ فأرى أن يطبق مذهب الأمام الأمام مالك عليها لأن هذه صورة أقرب للذي أضجع ولده فذبحه! وتلكم المرأة ألقت بطفليها في النيل بلا رحمة ومن ثم يقتص منها.
لكن وأشدد على هذا الاستدراك إذا صدقت المرأة في أقوالها كما ورد في وسائل الإعلام؛ حيث إنها ألقت طفليها في النيل آيسة من حالتها الاقتصادية المزرية. بالطبع هذه الظروف القاسية في المعيشة؛ لا تخفى على من يتابع ما يحدث في مصر؛ من ظلم وغلاء فاحش في الأسعار مع التضييق على أرزاق الناس في مكاسبهم ومعايشهم ووظائفهم، وفي المقابل حصر ثروات البلد بأيدي ثلة من المستكبرين الحاكمين لمصر ظلماً وعدوانا.
لذلك أرى أنه لا تقتل هذه المرأة بقتلها ولديها أو أحدهما عملاً برأي جمهور الفقهاء. لكن أولاً عليها التوبة إلى الله تعالى ثم لو كان للولد القتيل مال فلا ترثه، وعليها أن تدفع الدية لورثة القتيل الآخرين ولا ترث من هذه الدية والله أعلم.
الشيخ الدكتور هاني السباعي
مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية
11 رجب 1443هـ ـ 12 فبراير 2022
المصدر: الشادوف