عادت الانقلابات مجدّداً لتكون الوسيلة المفضلة للاستيلاء على السلطة في البلدان العربية التي شهدت ثورات وانتفاضات نجحت في إسقاط رموز أنظمة الاستبداد العربي، وكانت البداية من انقلاب العسكر في مصر على رئيس منتخب، ثم تلاه انقلاب دستوري في تونس قاده الرئيس قيس سعيّد، وجرى وسط عدم اعتراض من الجيش التونسي، وأخيراً قاد عسكر السودان انقلاباً على المدنيين الذين كانوا شركاء لهم في مجلس السيادة الانتقالي.
ويحفل التاريخ السياسي لأنظمة الحكم في الدول العربية بانقلابات عسكرية كثيرة، أفضت إلى السيطرة على السلطة فيها وتأسيس دكتاتوريات مديدة، أغلبها ما زال جاثماً على صدور شعوبها، وأشهرها ديكتاتورية نظام الأسد في سورية، التي أسسها حافظ الأسد بعد انقلابه العسكري عام 1970، وورثها ابنه بشار الأسد المستمر في قتل السوريين وبيع سورية للإيرانيين والروس الذين استقدمهم كي يدافعوا عن بقائه في السلطة إلى الأبد. ويمكن القول إنّ الانقلابات في كلّ من مصر وتونس والسودان، وعلى الرغم من وجود اختلافات المكان والزمان وسوى ذلك بينها، فإنّ مشتركات عديدة جمعتها، إلى درجة يمكن القول فيها إنّها استنساخ لوقائع وحيثيات جرت في هذه البلدان، بشكل أو بآخر، في ما كان مأمولاً أن تشهد بلدانها مرحلة الانتقال الديمقراطي التي أغلقت فيها حتى إشعار آخر.
وبعيداً عن نهج المقايسة والإسقاط، أسقط انقلاب 2013 في مصر رئيساً منتخباً، وفي تونس انقلب رئيسٌ منتخبٌ على برلمان منتخب وحكومة وافق عليها الرئيس، وصادق عليها البرلمان. أما في السودان فلم يكن الانقلاب على حكومة منتخبة، بل على قوى سياسيةٍ مدينةٍ قبلت تقاسم السلطة الانتقالية مع قادة عسكريين، ووقّعت معهم وثائق واتفاقاتٍ تحمي العسكر وتحتمي بهم في الوقت نفسه، على غرار ما فعلت جماعة الإخوان المسلمين في مصر بعد إطاحة حسني مبارك. وأظهر التنافس على السلطة أنّ القوى السياسية التي تصدّرت المشهد في مصر بعد ثورة يناير (2011) كانت مستعجلة في أمرها، إذ ذهبت إلى الانتخابات للفوز بها في ظل احتمائها بالعسكر، بعدما تفاهمت مع قادتهم، وعقدت معهم صفقة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، دشّنتها وثيقة المبادئ الدستورية، حافظ فيها قادة الجيش على مواقعهم وامتيازاتهم ومصالحهم، فيما اعتقدت القوى السياسية في السودان أنها، بمشاركتها العسكر في السلطة، يمكنها كسب ودّهم والاعتماد عليهم من أجل التخلص من قوى الثورة المضادّة التي شكلت نواة الدولة العميقة الصلبة، لكن خلافات حادّة نشأت بين الشقين، المدني والعسكري، في السلطة الانتقالية، بعد أن أظهر العسكر عدم رغبتهم في تسليم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين، كما كان متفقاً عليه في “الوثيقة الدستورية”، إضافة إلى خلافاتٍ أخرى نشبت بين القوى والأحزاب السياسية، وأفضت إلى انفصال مجموعة عن قوى إعلان الحرية والتغيير التي انحازت في مواقفها إلى العسكر، بل وطالبتهم بإطاحة الحكومة.
وقد حاولت بعض القوى تسويق مقولة إنّ العسكر وقفوا مع الثورة في كلّ من مصر والسودان، فيما كان موقف القادة العسكريين الحقيقي إبّان ثورتي البلدين ليس الوقوف مع الثورة وناسها، إنما أرادوا الحفاظ على مواقعهم وامتيازاتهم عبر التخلص من حسني مبارك وعمر البشير. وبالتالي، كان تدخلهم بمثابة انقلاب عسكري، وليس انحيازاً إلى الثورة في كلا البلدين، وغايتهم منه تمحورت حول العمل على إنقاذ أنفسهم، وليس إنقاذ البلاد كما يدّعون. لكنّ الطامّة الكبرى تجسّدت في التسليم أو القبول بدور العسكر في الحياة السياسية، والتعويل عليهم في المرحلة الانتقالية، إضافة إلى التنافس على مواقع السلطة، وخصوصاً الرئاسة والحكومة والبرلمان، بين الأحزاب والقوى السياسية التي ادّعت احتكار الثورة وتمثيل ناسها. وهذا ما ذهبت إليه جماعة الإخوان المسلمين في مصر وأحزاب المكوّن المدني في السودان والأحزاب التونسية، خصوصاً حركة النهضة، بينما لا يزال الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية يصرّ على أنه يمثل قوى الثورة والمعارضة، بوصفه الممثل الشرعي للشعب السوري، وكان يدّعي أنه الممثل الشرعي الوحيد، وطالب بأن يتمّ التعامل معه على أساس ذلك.
ويظهر واقع الحال أنّ الشباب في بلدان الثورات العربية ثاروا على نظم الاستبداد من دون أن تحرّكهم أي من القوى والأحزاب السياسية، وخرجوا في مظاهرات تلقائية وعفوية إلى الشوارع والساحات، مثلما فعل شباب تونس ومصر وليبيا وسورية والسودان وسواهم، على أمل التخلّص من واقعٍ لا يطاق ولا يحتمل، واقع ضاغط كان لا بد من أن ينفجر، ولم تكن احتجاجات ثوراتهم وحراكها مخططاً له، كما أنهم لم يفوضوا أي قوة سياسية كي تدعي أو تحتكر تمثيلهم. وكان من الممكن تفادي الإخفاقات المتكرّرة لو أن القوى السياسية، التي ادّعت احتكار تمثيل مطالب الناس وتطلعاتها، كانت أكثر فهماً لواقعها المعاش، وأكثر تفاهماً وتوافقاً مع سواها من القوى السياسية الأخرى، وهو أمرٌ لم تفعله جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بل كانت أكثر أنانيةً وتلهفاً للسلطة من سواها، وسكنها وهمٌ بأن الشعب المصري وقف إلى جانبها في انتخابات الرئاسة عام 2012، وكذلك توهّمت الأمر نفسه حركة النهضة في تونس وقوى الحرية والتغيير في السودان.
ولم تتعلم القوى السياسية في كلّ من مصر وتونس والسودان الدروس من غيرها، ظنّاً منها أنها تختلف عن سواها، وأنها أكثر ذكاء منها، فجماعة الإخوان المسلمين في مصر ظنت أنها تستطيع احتواء العسكر واستمالهم إلى طرفها عبر التسليم بامتيازاتهم ومصالحهم وقوننتها دستورياً، بينما ذهبت قوى الحرية والتغيير في السودان إلى تسليمهم قيادة مجلس السيادة الانتقالي، ثم تمادت في الرقص على أنغامهم عندما منحت شرعية لمليشيات الجنجويد التي غيّرت اسمها إلى “قوات الدعم السريع”، علماً أنّ المخلوع عمر البشير شكّلها من أجل حمايته، لكنّها تخلّت عنه وباعته حين اهتزّ مركبه، وبات قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) شريكاً أساسياً في مجلس السيادة، على الرغم من اتهامه بارتكاب جرائم بحق المحتجين السلميين خلال عملية فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، يونيو/ حزيران 2019، والأنكى أنّه جرى التسليم بأن تكون مليشياته بمثابة تشكيل عسكري مواز للجيش السوداني النظامي.
والحاصل أنّ كلّ القوى والأحزاب السياسية كانت تظن أنّها في وضع مختلف وسياقات مغايرة، وأنّ زمن الانقلابات قد ولّى، وفي وسعها إبعاد العسكر عن السلطة بناء على وثائق وتوافقات دستورية، وكأنّ العسكر الذين تسكنهم شهوة الاستيلاء على السلطة يقيمون وزناً للوثائق والدساتير.
عمر كوش
كاتب وباحث سوري مقيم فى تركيا
@@@@@@@@@@@@@@@@@
مقالات الرأي تعبر عن آراء أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية