منذ ظهور الإسلام فى منطقتنا الممتدة من أندونيسيا شرقا إلى المغرب غربا مرورا بالصحراء الكبرى والسافانا فى إفريقيا جنوبا، انصهرت شعوب تلك المنطقة فى بوتقة واحدة، وتركت دياناتها القديمة وثقافاتها وأعرافها بل وفى أحيان كثيرة لغتها، لتعتنق اللسان العربى ..
هذه المناطق أخرجت منتجا حضاريا فريدا عماده الإسلام، واستطاعت الحضارة الإسلامية أن تستفيد من خصائص كل عرق وميزاته ومنتجه الحضارى، ولا شك أن الحضارة الإسلامية قد إستفادت من المنتج الحضارى الفارسي والهندي واليونانى فى إطار حركة الترجمة الواسعة فى العصر العباسى، ثم أخرجت تلك الحضارة للإنسانية منتجا عظيما فى كل باب من أبواب العلم، وخرج من رحمها قادة وعلماء ومبدعون ومفكرون من كل الأعراق: العربى والفارسي والتركي والكردى والأمازيغى والأفريقى والأندلسى والصقلى الأوربي.
والحقيقة التاريخية تقول إن الخلاف السياسى بين المسلمين بعد الفتنة الكبرى وعلى مدار التاريخ لم يقم فى غالبه على أساس عرقى قومى أبداً، بل كان فى غالبه صراع مذهبى على أرضية الإسلام، أو صراع سياسى على السلطة.. وكان أخطر تلك الصراعات هو الصراع السنى- الشيعى الذى هو أم المعارك كما يقولون، والذى استنزف الكثير من موارد الأمة وطاقاتها، ولا نستطيع أن ننسى الصراع بين الخلافة العباسية السنية فى بغداد، والخلافة الفاطمية الشيعية فى القاهرة والذى دام لأكثر من مائتى سنة والذى مهد الطريق للحملات الصليبية، واحتلال القدس قديما.
ولا يمكن أن ننسى الصراع بين الخلافة العثمانية السنية والدولة الصفوية الشيعية فى إيران فى القرن السادس عشر، والتداخلات الأوربية التى حدثت فيه من قبل دول مثل البرتغال، فالشاهد أن كل الصراعات السياسية فى عالمنا الإسلامى حتى القرن التاسع عشر دارت على أرضية الخلاف المذهبى أو الصراع السياسى على السلطة، ولم يكن للقومية دور فيها فى الغالب والأعم ..
بدأ الضعف والوهن يدب فى جسد الخلافة العثمانية، وانتقلت عدوى القومية من أوروبا إلى الشرق الإسلامي عبر البعثات التبشيرية والمدارس الأجنبية والمستشرقين، لتنبعث فى عالمنا الإسلامى النعرة القومية، عبر ثلاث قوميات كبرى، القومية العربية، والقومية التركية، والقومية الفارسية، وباعتبار هذه القوميات الأكثر عددا والأكثر تأثيرا والتى عن طريق الصراع بينها، يمكن أن تتحقق أهداف المستعمر سريعا.
وبسبب طموح بعض أفراد النخبة السياسية فى عالمنا العربى وفى تركيا وبرعاية الإستعمار، فقد حدث هذا بالفعل ونجحت الخطة وكان الإحتلال الكامل لبلاد المسلمين فى بداية القرن العشرين وسقوط الخلافة العثمانية، والتمزق التام والتشظى الذى بدأ يأخذ منحنى سريعا نحو دعاوى القطرية، والمناطقية.
” دور الأنظمة المستبدة فى تأجيج الصراع”
ساهم الاستبداد والعمالة للأجنبى، ولا يزال، فى دعم القطرية والمناطقية فى وجدان الشعوب، حتى تحتفظ الأنظمة بمبرر لبقائها على كراسي الحكم، متناسية مصالح الأمة الإسلامية.. ومن هنا فإن علينا أن نفهم أن الصراع الدائر الآن فى منطقتنا العربية، بين النظام الإيراني والأنظمة العربية المحيطة به، لا يدور على أساس قومى عرقى، عرب وفرس !
بل الحقيقة أن من حاول أن يستدعي الحضارة الفارسية من التاريخ لدعم نظام حكمه، هو شاه إيران العلماني عميل الأمريكان، وقد بدا ذلك واضحا فى الحفل الشهير الذى أقامه الشاه عام ١٩٧١ ( ذكرى 2500 عام على إنشاء مملكة فارس( بالفارسية، وهو احتفال رسمي نصبه الشاه محمد رضا بهلوي لإحياء ذكرى 2500 عام على إنشاء مملكة فارس القديمة، ودعا فيه رؤساء وملوك العالم والأمراء لزيارة مدينة برسبولس الإيرانية من تاريخ 12 أكتوبر إلى 16 أكتوبر عام 1971م وكان حفلا أسطوريا )، وهو يشبه ماتفعله بعض الأنظمة العربية فى استدعاء الحضارة الفرعونية والبابلية والآشورية لتجميل وجه النظام واصطناع أمجاد تاريخية تلهو بها الشعوب، ولتدعيم الفكرة العلمانية، والحالة القطرية.
“دور الثورة الاسلامية الإيرانية وتوسيع دائرة النفوذ”
منذ الثورة الإسلامية فى إيران عام 1979، واستيلاء رجال الدين على السلطة، فقد عاد الصراع بين النظام فى إيران وجيرانه العرب إلى منحناه الأصلى التاريخى الذى عمره 1400 سنة.. إنه الصراع المذهبى (الشيعى-السنى)، يحاول فيه الشيعى من خلال خطاب المظلومية التاريخية أن يوسع من دائرة نفوذه عبر الأقليات الشيعية العربية فى العراق وشبه الجزيرة العربية والشام واليمن..
ويمكننا الإشارة إلى أهم ثوابت المشروع الايراني فيمايلى:
• احياء الصفوية الفارسية كنموذج أعلي في تاريخ الشيعة
• الحقد العقائدي والباطني على الأمة الإسلامية وغالبيتها السنية.
• عقيدة المظلومة لتبرير اجرامها على الأمة المسلمة.
• نشر التشيع الاثنى عشري وتصديره لشعوب الأمة الإسلامية.
• منع عودة الخلافة الإسلامية ومرجعية الأمة المسلمة.
• ربط جميع الاقليات الشيعية والباطنية في العالم بالمشروع الإيراني.
• تعويض النقص في المشروع بالسعي لامتلاك السلاح النووي.
• تقليد المشاريع العالمية في نظريات الصراع والهيمنة خصوصا فيما يتعلق باستثمار الصراع المذهبي والقومي.
في هذا السياق يسعي النظام الإيراني لتوسيع دائرة الأمن القومى له، ولأن يتحول إلى قوة إقليمية معتبرة لها وزن دولى، وكانت أولى محطات هذا الصراع هي الحرب العراقية-الإيرانية فى الثمانينات، ثم التعاون مع الأمريكان لاحتلال العراق فى 2003، ثم التماهى مع النظام الإستبدادى الطائفى العلماني فى سوريا، وارتكاب أبشع الجرائم، مرورا باليمن الذى تم إحراقه..
لقد كانت كلفة هذا الصراع مريرة جدا بالنسبة لعالمنا العربى فى سوريا والعراق واليمن، ودُمرّت فيه البنية الأساسية لتلك الدول وتُرّك فيها جراحات مريرة، ولم يكن السبب فى نجاح هذا المخطط الإيراني هو إستحكام التخطيط أو كثرة الموارد المالية والبشرية، بل كان السبب هو أداء انظمتنا العربية العلمانية الإستبدادية البائسة التى تخشى من استدعاء المكون الإسلامى الشعبى-السنى الذى هو بطبيعته قادر على المواجهة مع الإيراني، بل ويستطيع أن يجبر الإيراني على الجلوس للتفاهم والحوار للوصول إلى حل وسط بدلا من إهدار موارد الأمة واستنزاف طاقتها.
وأمام المأزق الذى وجدت تلك الأنظمة نفسها فيه، لجأت للمواجهة الفكرية للمشروع الإيراني عبر اتجاهين، الأول: إستدعاء فكرة فارسية المشروع الإيراني، بحيث يصبح الفارسي المجوسى عابد النار فى مواجهة العربى المسلم، فى مواجهة قومية بائسة، ويتذكر الجميع فيلم القادسية الذى أنتجه العراق فى الثمانينات والذى صور معركة القادسية الإسلامية العظيمة بأنها صراع بين العرب والفرس المجوس ( طبعا هذا ابان حكم صدام وحزب البعث العربى الاشتراكي) في العراق.
و الثانى: هو إستدعاء كل الميراث الشيعى القديم السىء الذى يتحدث عن الصحابة وعن أمهات المؤمنين وعن السنة بشكل عام من بطون الكتب ومن على أفواه بعض المعممين، وبعثه للحياة عبر الميديا بأشكالها المختلفة.
أما على مستوى المواجهة العسكرية فبدلا من توحيد الأمة والتحالف مع المكون الإسلامى السنى الشعبى، فى مواجهة التمدد الشيعى، لجأت تلك الأنظمة البائسة للإعتماد على الأجنبي، لتفقد بذلك الأرضية الأخلاقية فى هذا الصراع وتصنف باعتبارها موالية للمستعمر، ويزداد إستنزاف موارد الأمة، عبر شحنات ضخمة من الأسلحة والخبراء العسكريين الأجانب.
” الخلاصة”
لم يتوقف بل استمر المخطط الإيراني وزاد من حدته الصراع والإستقطاب بين الفريقين، واستمر المستعمر سواء الشرقى ممثلا فى روسيا الاتحادية والغربى ممثلا فى أمريكا فى استغلال الفريقين السنى والشيعى معا.. لكن فى نهاية الأمر علينا أن ندرك عدة حقائق:
- ان الشيعة فى إيران وعالمنا العربى والإسلامي بتياراتهم المختلفة هم جزء من شعوب هذه المنطقة ولن يغادروها، وبالتالي فإن علينا أن نصل لصيغة للتفاهم والتعايش معهم فى ظل إحترام العقائد بيننا ( مثلهم مثل كل الأقليات الدينية ).
- المكون الإسلامى السنى الشعبى هو الأقدر على التعامل مع المكون الشيعى وهو الحصانة لشعوب منطقتنا فى مواجهة التمدد الشيعى .
- إن استمرار الصراع بين الشيعة والسنة لن يستفيد منه إلا المستعمر الأجنبي والصهاينة، إذ أنه يستنزف مواردنا، ويحول المنطقة إلى ساحة حرب دائمة تعوق كل مسارات النهضة والتنمية.
- إن الإسلام هو القاسم الحضارى المشترك الذى يستطيع أن يجمع شتات الأمة، وأن دعاوى القومية التى حملتها الأمة على كتفيها عبر قرنين من الزمان (عربي، تركى، فارسى، كردى، أمازيغى، …الخ) هي السبب في تلك الحالة البائسة من الفرقة والتشرذم والحراب الأهلى التى وصل إليها عالمنا العربي والإسلامي حاليا .
د. محمد عماد صابر
سياسي وبرلماني مصري
من نواب برلمان الثورة 2012
*********************************************************************
الآراء الواردة فى المقال تعبر عن صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن موقع الشادوف أو تمثل سياساته التحريرية