مع تصاعد التوترات بين روسيا وأوكرانيا، توقع الكثير في واشنطن أن تكون تركيا هي الخاسر الأكبر، لكن الأحداث الدولية لديها طريقة لإرباك التوقعات، فمع اقتراب الحرب في أوكرانيا من شهرها الرابع، ارتفعت مكانة تركيا الدولية بفضل (استراتيجية حذرة) تحركت من خلالها على ثلاثة مستويات.
المستوى الأول قامت من خلاله أنقرة بتسليح أوكرانيا بطائرات بدون طيار وغيرها، والثاني يثمثل في انضمام تركيا إلى بعض العقوبات الغربية على روسيا وليس كلها، أما المستوى الثالث فقد تمثل في الجلوس مع القادة الروس كلما أمكن ذلك.
هذه الاستراتيجية وهذا النهج سمح لتركيا بفعل ما لايمكن تصوره، فقد تمكنت أنقرة من الحفاظ على علاقات قوية مع كل من الناتو وروسيا في ظل مناخ دولي ينبئ باقتراب خطر اندلاع حرب باردة جديدة.
والحقيقة أن تركيا بلد مهم من الناحية الجغرافية، وقد عزز هذا بالذات مكانتها، كما عزز جهود تركيا لتحقيق التوازن بين الشرق والغرب وهو أمر ليس بجديد تاريخيا، حيث تمتد اسطنبول على مضيق البوسفور، الممر المائي الاستراتيجي الذي يربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط. ونظراً لأن روسيا هي القوة البحرية الرئيسية على البحر الأسود، لم يكن أمام تركيا خيار سوى التعامل معها على مر السنين. وقد أصبح البلدان الآن شريكين تجاريين رئيسيين، ويتدفق السياح الروس إلى ساحل بحر إيجة التركي كل صيف.
وأيضا لتركيا حدود مع أوروبا ولها تاريخ طويل من العلاقات مع القارة الأوربية، وأنقرة جزء من الناتو منذ عام 1952، وقربها من روسيا وجيشها الكبير يجعلها ثاني أهم عضو في الحلف.
“الموقع الجغرافى ليس كل شيء“
لقد كان أردوغان وحزبه العدالة والتنمية (AKP) في يوم من الأيام حبيبي أوروبا ويعتبر نموذجًا للإسلام السياسي المعتدل، لكنه أصبح بعيدًا عن الشركاء الغربيين في السنوات الأخيرة، حيث
ساءت الأمور في عام 2016 بعد أن حاول أفراد من الجيش التركي الإطاحة بحكومة أردوغان، ومن ثم فإن أردوغان ومستشاريه يعتقدون أن الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية كانت في الأساس تضع رهاناتهم خلال تلك الساعات من عدم اليقين حيث كانت مؤامرة الانقلاب تحدث مما دفع المفكرين الأتراك إلى الاتصال من أجل التقارب مع روسيا.
وصلت التوترات بين أنقرة والغرب إلى نقطة الغليان في عام 2018 عندما اشترت أنقرة دفاعات صاروخية روسية غير متوافقة مع أنظمة حلف شمال الأطلسي، وهي خطوة أبعدت تركيا عن برنامج طائرات F-35. وهدد الرئيس السابق دونالد ترامب “بتدمير وطمس” الاقتصاد التركي بالكامل.
وصل الوضع إلى ذروته في منتصف عام 2021 عندما اعترف بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن، وهي خطوة اعتبرتها أنقرة بمثابة هجوم غير مبرر على قصتها الوطنية.
ويمكن وصف السنوات التي تلت العملية الانقلابية الفاشلة والعلاقات التركية الغربية بالسنوات الصخرية، والتقارب التركي أكثر مع روسيا على المسرح العالمي، لكن أداء أنقرة في أزمة أوكرانيا غير النبرة في العواصم الغربية دون الإضرار بعلاقاتها مع روسيا، وهو إنجاز رائع. وقد ثمثل أداء تركيا في أزمة أوكرانيا، أن تركيا أمضت الأشهر القليلة الماضية في تسليح كييف، زودت أوكرانيا بطائرات بدون طيار وغيرها من السلاح، مما سمح لأوكرانيا بتحقيق انتصارات مبكرة “عززت معنويات الجميع في التحالف الغربي، ورفعت تركيا من مكانتها الجيوستراتيجية من خلال هذا العمل وحده، وكانت لفتة كبيرة بما يكفي لإظهار أن تركيا تعمل جنبًا إلى جنب مع الناتو، وللتأكد من أن أوكرانيا يمكن أن ترد على العدوان الروسي.
لكن هذه المكانة الجديدة باتت الآن على المحك، عندما أعلنت فنلندا والسويد عن رغبتهما في الانضمام إلى الناتو. اعترضت تركيا على الفور على عروضهما، مشيرة إلى أن الدولتين منحتا الملاذ لأعضاء حزب العمال الكردستاني، وهي جماعة كردية مسلحة تصنفها تركيا ومعظم الدول الغربية على أنها منظمة إرهابية. وتعتقد تركيا أن قرار فنلندا والسويد باستضافة المنتسبين إلى حزب العمال الكردستاني سمح للمنظمة بالبقاء على قيد الحياة على الرغم من عقود من الصراع مع أنقرة أدى هذا الاعتراض إلى إثارة الذعر لدى البعض، الذين يرون أن هذه الخطوة انقسامية ومحفوفة بالمخاطر في وقت يتعين فيه على الناتو إظهار نفسه كجبهة موحدة.
ونظر البعض الى رؤية تركيا على أنها “حصان طروادة لروسيا داخل الناتو، فتهديدات أردوغان بعرقلة عضوية السويد وفنلندا في الناتو توضح أن روسيا هي المستفيد الأساسي من الخلافات بين تركيا وحلفائها الغربيين.
ويبدو واضحا أن أردوغان مصمم على استخدام نفوذه لتحقيق الفوز، بالحصول على بعض التنازلات من الدول الطامحة للانضمام للناتو بطريقة ما، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات العام المقبل.
تعرف تركيا أن الناتو لا يريد التعامل مع عواقب ترك أنقرة تقترب أكثر من دائرة النفوذ الروسي. وهذا ما صرح به رئيس الناتو ينس ستولتنبرغ في مؤتمر صحفي، قال ستولتنبرغ إن لدى تركيا “مخاوف مشروعة” تتعلق بالإرهاب. قضية رئيسية أخرى في الصراع هي حقيقة أن ملايين الأطنان من الحبوب موضوعة في صوامع في أوكرانيا، غير قادرة على الوصول إلى الأسواق الدولية، والحكومات الغربية يائسة للحصول على تلك الحبوب تتدفق للتخفيف من أزمة الغذاء التي تهدد الآن بعض أفقر دول العالم بالمجاعة. لكن القليل منهم على استعداد للتحدث مع روسيا في هذا الصدد.
ومع ذلك، فإن جهود أردوغان قد واجهت عقبة خطيرة مؤخراً، حيث رفضت أوكرانيا (التي لم تكن في الواقع على طاولة المفاوضات) شروط موسكو لاستعادة الشحن. لكن تركيا لديها حوافز كبيرة لمواصلة الضغط على صادرات الحبوب وكذلك بذل جهود أكبر للوساطة بين الأطراف المتحاربة.
تركيا لديها الفرصة الآن لإنقاذ العالم من أزمة غذاء وشيكة، أو ربما جلب هذه الأطراف إلى طاولة المفاوضات.
إن جهود أوردغان ونفوذ تركيا يترجم الآن إلى صعود جيوسياسي طويل الأجل، ان أردوغان يريد الاعتراف بأهمية تركيا، والحرب الروسية الأوكرانية تمنحه الفرصة.
محمد عماد صابر
سياسي وبرلماني مصري
من نواب برلمان الثورة 2012
الآراء الواردة فى المقال تعبر عن صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن موقع الشادوف أو تمثل سياساته التحريرية