أعادت عمليات إسرائيل العدوانية المتتالية ضد إيران ومصالحها ومنشآتها الاساسية، الى جدول الأعمال العربي التساؤل حول أين تكمن مصلحتنا الحقيقية في هذا الواقع على الساحة المتوترة اصلا.
واضح أن إسرائيل تستدرج إيران للرد على عملياتها العدوانية، وواضح أكثر من ذلك ان إيران تتعاطى مع هذا الوضع بذكاء وحكمة، ذكاء في نشر حقائق حول هذه العمليات، حيث أمكن، وحيث تستدعي الضرورة ذلك، لمنع وقوع شعبها وحلفائها في شرك اعتماد ما يصدر عن إسرائيل من أخبار وتسريبات؛ وحكمة الرد على كل ما أمكن من تلك العمليات بتوقيت وبحجم رد مدروس، يظهر مقدرتها على الرد، ويمنع، في ذات الوقت اعطاء مبرر لإسرائيل لتفجير كبير للأحداث، تستفيد منه في استدراج أمريكا، وربما بعض دول الغرب، للمشاركة في تقويض الأوضاع في إيران، وايذاء النظام هناك تمهيدا لاسقاطه.
بدأ هذا المسلسل الإسرائيلي من الاعتداءات الإسرائيلية في التصاعد بوتيرة عالية منذ نحو عقد ونصف العقد، ووصل بعد المحاولات المستميتة لمنع استقرار وتمركز قوات إيرانية على الاراضي السورية (والعراقية واليمنية) ووضع العقبات لعرقلة الطريق أمام تزويد حزب الله اللبناني بعوامل القوة والردع في مواجهاته مع إسرائيل، الى مرحلة استهداف صامت، غير معلن، لبواخر إيرانية في البحر الابيض المتوسط، تكسر الحصار وتمد سوريا بكميات من النفط، ثم بدأت، منذ نحو ستة اشهر، من التحدث والاعلان الضمني عن تلك العمليات التخريبية، لاحراج إيران، و«اجبارها» على الرد، أملا في أن تتخذ من ذلك مبررا لتصعيد جديد، وتدخل أمريكي مباشر، يشكل غطاء ودرعا واقيا، بل وسهما في حربها لاستمرار هيمنتها، منفردة، على كثير مساحة المشرق العربي، ومصر والسودان ايضا. وهذا ما يشبه تماما ما أقدمت عليه سنة 1956 في ما عرف في حينه بـ«العدوان الثلاثي» على مصر، عندما غررت إسرائيل ببريطانيا وفرنسا، ودفعتهما لتكونا رأس الحربة في محاولة اسقاط نظام الرئيس العربي جمال عبد الناصر.
كانت ردود الفعل الإيرانية، في هذه الأشهر القليلة الماضية، مدروسة بدقة، حيث شكلت ردا موجعا وواضحا على الاستفزازات الإسرائيلية، وحرمتها في الوقت ذاته من تقديمها ذريعة لتفجير كبير تشارك فيه أمريكا هذه المرة، وتمثّلت هذه الردود بالحاق أذى محدود ببعض بواخر شحن يملكها إسرائيليون، في مياه الخليج وبحر العرب والبحر الاحمر. وجاء التصعيد الإسرائيلي الجديد بعد ذلك باستهداف قطعة بحرية إيرانية تابعة للحرس الثوري، وربما لجهاز الاستخبارات وجمع المعلومات في البحر الأحمر غير بعيد عن شواطئ السودان.
لكن عملية الاستفزاز الإسرائيلية السيبرانية الاخيرة قبل عشرة ايام، التي ادت الى تعطيل أجهزة الكهرباء وإلحاق اضرار جسيمة بكوابل تزويد أجهزة الطرد المركزي بالطاقة، في منشأة نطنز الذرية الإيرانية، كانت بمثابة هدية كبيرة لإيران، أعطتها مبررا لأن تعلن بعد اربعة ايام من تنفيذها قرارا برفع درجة تخصيب اليورانيوم في تلك المنشأة الى 60 في المئة، ما يعني عمليا أنها اصبحت على عتبة الوصول الى درجة التخصيب التي تمكنها من انتاج سلاح ذري، (وهي درجة 90 في المئة). وكانت إيران قبل ذلك قد رفعت التخصيب الى درجة 20 في المئة، ردا على انسحاب أمريكا في عهد الرئيس دونالد ترامب من اتفاق خمسة زائد واحد مع إيران، وفشل الدول الأوروبية الثلاث: بريطانيا وفرنسا والمانيا، في تعويض إيران عن أضرار فرض ترامب لعقوبات عليها، خروجا على الاتفاق المذكور.
على أن ما يهمنا، كدول وشعوب عربية، على صعيد هذا الصراع الإسرائيلي الإيراني، هو محاولة الرد على ثلاثة اسئلة محورية:
ـ أين نحن من هذا الصراع؟
ـ وأين تتمركز مصلحتنا؟
ـ وأي سياسة يجدر بنا اعتمادها؟
نبدأ من السؤال الأول. يقولون: اذا تعاركت القرود، دمّرت الحقل.. واذا تصالحت القرود اكلت المحصول.
ليست إسرائيل من فصيلة القرود، وبالطبع فان إيران ليست كذلك. بل وتمتاز إيران (والفُرس) انها ليست العدو (بأل التعريف) للعرب كما هو حال إسرائيل، وانما هي جارة تاريخية، ربطتنا وتربطنا بها علاقات متشعبة ومتقلبة: ود وصدام وتوافق وتكامل، مع ميل ظاهر ومتواصل لتغليب حسن الجوار والتعاون على بعض حقب من العداء والمواجهة.
سلاح إسرائيل الذري ليس سلاحا لحماية العرب، لا في
في هذه الحقبة من تاريخ المنطقة، تتصارع إسرائيل، (ومعها من يشكلون درعا وحربة وسهما لها) مع إيران، على من يهيمن على الأرض العربية ويستغل خيراتها: موقعها ومواردها الطبيعية، (خاصة بترولها) وأسواقها الاستهلاكية. واي تعارك، (وهو ما استبعد وقوعه) بين الفريقين، ستكون نتيجته تدمير «الحقل» الذي هو أرض شعوبنا العربية، وخاصة شعوب شبه الجزيرة العربية؛ وأي تصالح بين المعسكرين ستكون نتيجته الاستيلاء على «المحصول» الذي هو كل خيرات وطننا العربي. إنهما في المعسكرين يتقاتلان علينا، أكرر: يتقاتلان علينا.. وليس بينهما من يقاتل لأجْلِنا. وكل عربي يناصر أي واحد من المعسكرين انما هو في حقيقة الأمر «يرقص» في مأتمه الشخصي ومأتم شعبه وامته.
ثم، تكمن مصلحتنا الحقيقية، في ضوء ما هو معروف عن امتلاك إسرائيل لأسلحة ذرية، في أن لا تكون منفردة في هذا. ووجود ردع لسلاحها في مستودعات جارة العرب، إيران، لا يشكل لنا تهديدا حقيقيا، إذ حتى يومنا هذا، وربما لعقود ودهور لاحقة، فان هذا السلاح هو سلاح ردع يشكّل درعا للحماية من هزيمة اقرب ما تكون للإبادة. هو درع يحمي وليس حربة تفرض سيطرتها. ولعل ما نعرفه من وجود ما يكفي لدى المعسكرين، (في حينه) من تدمير كامل الحياة البشرية، (وغير البشرية) على الكرة الارضية، مرات عديدة، هو الاثبات الاكبر لذلك؛ وتمت اعادة تأكيد ذلك، بوضوح ماثل للعيان، من خلال ما شهدناه، ونشهده، من انخفاض واضح في درجة التوتر والصدامات بين الهند وباكستان منذ ان امتلكت الهند للسلاح الذري، بداية، وما لبثت ان لحقت بها باكستان.
نصل هنا الى الثالث، والأخير، من اسئلتنا المحورية، سؤالنا عن أي سياسة يجدر بنا اعتمادها في هذه الاجواء، وفي هذه المرحلة، فنقول:
منذ أن بدأت فرنسا في بناء مفاعل ديمونا الذري لإسرائيل سنة 1956، وتزويدها بكل ما تحتاجه لانتاج قنابل ذرية، وتقول مصادر صحافية غربية عديدة أنها تمتلكها، (وتخزنها في بطن جبل جفات، («يودفات» بالعبرية) جنوب غرب بلدي، سخنين، في الجليل) فإن التشدد الدولي لحرمان العرب من انتاج سلاح ذري، بحجة منع سباق التسلح بأسلحة «غير تقليدية» في الشرق الاوسط، هي حجة واهية، غير عادلة، ويجب أن تكون مرفوضة، طالما أن واحدا من طرفي الصراع العربي الصهيوني ينتجها ويمتلكها، وهو بطبيعة الحال، والمنطق السليم، من أدخل هذا الشرق الأوسط الى ساحة التسابق لانتاج وامتلاك هذا السلاح.
ليس عيبا أن تحاول إيران انتاج سلاح يحميها ويؤمن مستقبلها. العيب، كل العيب، أن لا يعمل العرب على انتاج سلاح ذري.
فسلاح إسرائيل التقليدي، وسلاح إسرائيل غير التقليدي، هو تهديد مباشر ودائم للعرب.. ولا يغيب عن الذهن، في هذا السياق، ان موشي ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي ايام حرب تشرين/اكتوبر 1973، المجيدة، حقاً، أمر بالاعداد لامكانية استخدامه، في حال استمرار جيش مصر في التقدم في شبه جزيرة سيناء المصرية، ووصوله الى مشارف حدود الاحتلال الإسرائيلي.
سلاح إسرائيل الذري ليس سلاحا لحماية العرب، لا في الخليج ولا في شبه الجزيرة العربية كلها، ولا في المغرب العربي. إنه سلاح هيمنة وإذلال للعرب في حاضرهم وفي مستقبل اجيالهم. وقد يكون من الجدير أن نقول، في هذا السياق، إن قنابل إسرائيل الذرية لا تشكل خطرا على شعبنا الفلسطيني بالمطلق، حيث ان قصف نابلس، مثلا، بسلاح ذري، يعني تدمير تل أبيب.
يقولون: السياسة فن الممكن. هذا قول مبتذل. السياسة الحكيمة والشجاعة هي سياسة لا تنطلق من التساؤل: هل تقبل إسرائيل؟ السياسة الحكيمة والشجاعة هي السياسة التي تنطلق من : كيف أقنع إسرائيل بـ. وإن لم تنجح تصبح سياسة: كيف أجعل إسرائيل تقبل بـ. وإن لم تنجح تصبح سياسة: كيف أُرغم إسرائيل على…. !!