لا تصمد الدراما كثيراً أمام حقائق التاريخ والجغرافيا. رغم ذلك، تؤدي دوراً مؤثراً في تغيير السلوك أحياناً، وفي التأثير في القناعات أو تكوينها. منذ فجر السينما، أدركت الولايات المتحدة عمق التأثير الناعم الذي تحدثه الشاشة في الشرائح الاجتماعية، فلم تتوانَ عن استهدافها. أمام حالة الاستلاب الذهني، يستسلم المشاهد للتسلية والترفيه، فيبسط عقله لوهج الشاشة التي تتراءى محايدة، وهي قد تكون في حالات كثيرة نابعة من خلفيات تجارية ربحية بحتة، لكنها لا تخلو من رسائل وأهداف وقيم في أحيان كثيرة.
برزت السينما خلال الحرب العالمية الثانية كوسيلة لاجتذاب الفئات الشبابية إلى التطوّع والخدمة العسكرية، ولا سيما داخل الولايات المتحدة. وخلال حرب فيتنام، ظهر عدد كبير من الأفلام الّتي سعت إلى الترويج لسردية محددة وإقناع المشاهدين بها بطريقة غير مباشرة أو بالأحرى غير واعية.
نظراً إلى خطورتها وأهميتها، شكّلت صناعة السينما الأميركية مجالاً رحباً لعمل وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية، فظهر التعاون بين المؤسستين العسكرية والسينمائية إلى العلن منذ العام 1996. حينها، أعلنت وكالة الـ”سي آي إيه” أنها أنشأت مكتباً للتنسيق بين الوكالة وعالم الترفيه وتقديم الخبرة والاستشارات من عملاء الوكالة لصنّاع السينما.
“دور السي آي إيه في هوليوود” واحد من الكتب التي تسرد كيف سعت الوكالة إلى تصوير السياسة الخارجية الأميركية بشكل يستطيع كسب القلوب والعقول في الخارج إبان الحرب الباردة. على هذا الأساس، لم تتوجه السينما الأميركية إلى التأثير في الرأي العام الأميركي فحسب، بل تجاوزته إلى عشاق السينما في جميع أنحاء العالم أيضاً، وخصوصاً البلدان المناوئة لها، بحيث لا حواجز تعوّق انتقال الأفكار الموجّهة التي تسعى الأجهزة الأميركية إلى غرسها في المتلقي. لم يقتصر الأمر على الأفلام، فخلال فترة الحرب الباردة، أنتجت هوليوود تحت رعاية “السي آي إيه” مجموعة من المسلسلات، مثل “أليس و24 ساعة”.
كتاب “الحياة والموت السري في وكالة الاستخبارات المركزية” مصدر آخر يوثق بالتفاصيل العلاقة المتينة والحيوية بين صناعة السينما وأجهزة البروباغندا الأميركية. بحسب الكتاب، اهتمت وكالة “سي آي إيه” على مدار عقود الحرب الباردة بتقديم صورة مثالية عن الحياة الأميركية.
يمكن سوق آلاف الأمثلة على الأفلام الموجهة في إطار الحديث عن الدراما والسينما الأميركية، منها أفلام تترشح إلى أرفع جوائز السينما العالمية أو تنالها، وتظهر في بعضها سمات الشهامة والشرف والتضحية والتفوق، لينتصر البطل الأميركي في النهاية.
رغم الدور الدعائي المهم وغير المشكوك فيه الذي تؤديه السينما الأميركية، ورغم دورها وأهميتها في تشكيل الأفكار والتصورات والقناعات، فإن ثمة حقائق صلبة لا يمكن أن تلغيها كل تلك الأدوار ولم تستطع فعل ذلك. لم تمنح مئات الأفلام النصر لأميركا على فيتنام، كما لم تمنحها النصر في العراق وأفغانستان. لم تستطع مئات الأفلام أن تغيّر اتجاه العالم نحو التعددية القطبية وتقدم الصين وعودة روسيا، رغم الجهد الدعائي الموجّه طيلة عقود الحرب الباردة. في النهاية، تفوّق التاريخ على الخيال العلمي، وكانت موازين القوى على الأرض أقوى من غزو الفضاء في الأفلام.
كيف اختفت أم هارون؟
اختفت أم هارون، ولم نعد نسمع عنها شيئاً. توارت مع مسلسل “مخرج 7” خلف المستجدات، كأنها تفسح المجال لمشهد مختلف ومتغيّر. حمل المسلسل اسم السيدة اليهودية التي عاشت في الكويت خلال أربعينيات القرن الماضي، وبرز في سياق تحوّلات سياسية خليجية تمهّد لعلاقات معلنة مع “إسرائيل”. هذه الأعمال الدرامية التي عرضت على شاشة سعودية جاءت ضمن حملة ممنهجة شملت وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى وسائل إعلام تقليدية، تهدف إلى تمهيد الطريق للرأي العام أمام خطوات مرتقبة لإقامة علاقات علنية مع “إسرائيل”. اتخدت هذه المحاولة مناحي مختلفة يمكن تلخيص أهمها بما يلي:
أولاً، شيطنة الفلسطيني “الّذي باع أرضه” بالتوازي مع رواج خطاب: “لا نريد أن نكون ملكيين أكثر من الملك”.
ثانياً، تسخيف مفهوم القضايا القومية والعروبية، وعلى رأسها القضية الفلسطينة والالتزام بها، باعتبارها تستنزف الميزانيات الوطنية للسعودية الجديدة الباحثة عن رفاه شعبها، وباعتبارها أيضاً أفكاراً وتصورات رومانسية عفا عليها الزمن.
ثالثاً، تسويق مزايا الانفتاح على “إسرائيل”، باعتبارها رائدة في المنطقة في عدد من المجالات، والتشبيك معها، ينطويان على مصلحة اقتصادية.
رابعاً، إحلال العداء لإيران بدلاً من العداء لـ”إسرائيل”، واستثمار التوجّه العلماني اللاديني الجديد في المملكة في تعزيز هذه التوجهات.
انعكست هذه المناحي في المقالات والأخبار، وفي خطابات الجيوش الإلكترونية، والأهم أن هذا الخطاب الإعلامي كان يسير بموازاة خطوات عملية على الأرض، مثل زيارة مدوّنين وناشطين سعوديين للأراضي المحتلة، وظهور أشخاص يحملون الوثائق الإسرائيلية في نشاطات سياحية ورياضية وبحثية في السعودية.
وصل هذا المسار إلى ذروته مع إخراج الإمارات والبحرين علاقاتهما مع “إسرائيل” إلى العلن، ليتبعهما المغرب، ثم السودان، بموازاة الحديث في الإعلام العبري عن دول أخرى مرتقبة. بدا في ذروة هذا الحدث الإعلامي أنه لم يعد هناك إلا القليل من العرب الصامدين خارج التبعية للإرداة الصهيونية، وأن هناك حتمية تسير باتجاه تأبيد السيطرة الإسرائيلية على المنطقة التي باتت أغلب دولها تخضع لاتفاقيات “سلام”.
في ظل هذه الظروف، حلّت المسلسلات المُطبعة مبشّرة بمرحلة جديدة من الإنتاج الدرامي العربي الذي يسيطر المال الخليجي على جزء وازن منه، وتراءى أن المستقبل يتعدّى ذلك، وسوف يشمل المشهد المرئي والسينمائي والفني، نظراً إلى الإمكانيات والقنوات التي تمتلكها السعودية والإمارات.
غادر ترامب وجاء بايدن. يُحكى في الإعلام اليوم أن السعودية تطرح على إيران استعدادها للتخلي عن التطبيع مع “إسرائيل” في إطار المحادثات التي جرى تسريبها بين طهران والرياض في بغداد. بعد عام على مسلسلي “مخرج 7″ و”أم هارون”، تقف السعودية في وضع محرج للغاية في اليمن.
كان لافتاً هذا العام اختفاء مسلسلات التطبيع عن الشاشات السعودية. بارز أيضاً خفوت صوت المطبعين مقابل علوّ صوت المقدسيين. أصوات الفلسطينيين في حي الشيخ جرّاح، على قلة عددهم (28 عائلة)، تبدو أكثر إقناعاً وتأثيراً وفعالية في الرأي العام العربي من طنين جيوش إلكترونية بأكملها.
صوت التطبيع يبدو باهتاً، أصفر، مائعاً، إذا ما قورن بالتطورات التي شهدتها الأسابيع الأخيرة، والتي تبرز حقيقة المشهد. القدس أقرب، و”إسرائيل” بحاجة إلى من يحميها، فكيف بالأحرى من يستجدي العلاقات معها طلباً للحماية؟
في هذه الحالة، لا تفيد الأموال، ولا تغيّر أفلام السينما موازين القوى على الأرض، ولا تصمد الدراما أمام حقائق التاريخ والجغرافيا.
علي فواز
صحافي لبناني
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
الآراء المنشورة فى المقالات تعبر عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية