يستطيع الإنسان شراء كل شيء إلا الشرف، يتعذّر كسبه بالمال أو ادعاءه بالكلمات، إذ هو جزء أصيل في التكوين النفسي للإنسان نشأ معه وتربى عليه، مبدأ أخلاقي وتربوي يُشكّل السلوك ويصيغ المشاعر ويظهر أثره في التعامل مع البشر، وما أبعد غانم بركات أحد أبطال رواية “عرايا في إسطنبول” عن الشرف الرفيع والخلق القويم والصدق الوطني.
عندما بدأت دراسة الميول النفسية والفكرية لشخصية غانم بركات وفهم رؤيتها الاجتماعية وتتبع مواقفها السياسية قبل كتابتها، وجدتها كاملة الدسم من حيث الإلهام وسهولة التناول رغم كثرة تفاصيلها الموغلة في التعقيد والحيرة.
شخصية سياسية فاسدة من منظور روائي قد تصادفك في كل عصر وزمان، لكن ما يميز غانم بركات في “عرايا” أنه منتفخ الذات كثير الادعاء، ابن أى مرحلة وإن كانت ضد كل مبدأ، تجسيد واقعي لشخصية سلطوية تستغرق بعنفها وصلفها الفضاء من حولها، وتطمس بحضورها الزائف جميع من تجالسها إرضاء لنرجستيها الفجة وعللها النفسية، ينسب لنفسه ما ليس له، قد ترى في ظاهره ثِقل ووجاهة، لكن هذا الثِقل مجرّد غبار كثيف راكمته غفلة الأيام، ونفاق الناس ليصيبوا من خيره أو يسلموا من شره، فعاش في وهم وتَوهم وظن أنه على شيء، وسرعان ما سيخف وزنه مع أول رياح تغيير حقيقية، فما زال يظن نفسه كبيرا وهو كبير لصِغر المحيطين به.
بنى لنفسه عزبة خاصة في ناحية واستأجر بعض الرعايا كديكور سياسي لخدمته، وسن قوانين سلطوية تسد ثغرات النقص في شخصيته وتشعره بأهميته، قبل أن ترسي مبادئ العدل في عزبته، عالم صغير عاش فيه حلم راوده كثيرا وفشل في تحقيقه بالحق لضعفه ومهانته، فحققه بالباطل بزيفه وخيانته، حلم بالسيادة وتمدد النفوذ لاحقه كثيرا في حياته، لكنه تحطّم على صخرة الحقيقة وضعف الحضور وأطماعه الرخيصة ومتاجرته بكل شيء، وتعالوا بنا نقرأ جزء من مشهد نهاية غانم بركات في الرواية.
المشهد الآخير
خواطر كثيرة تجول في رأس غانم بركات لكن الصمت أطبق عليه فلم يستطع الحديث وهو السياسي البارع في الخطابة ودغدغة المشاعر وتغليف الكذب بكلام مُنمَّق للتلبيس على الناس، فقال له فارس بك: ما لي أراك مرتبكًا؟ كلها لحظات ونبدأ كَشْف الأوراق.
مرَّ الوقت ببطء شديد على غانم بركات فلأول مرة يُوضع في هذا الموقف، وتنفد منه كل الحجج التي لطالما ناور بها على موائد المصالح وكسر بها نفوسًا وبرر بها ظلمًا، وقال في نفسه: ليتني انتهيت في السياسة كما بدأت، ما كنت وقفت تلك المواقف التي تنزع لحم الوجه من شدة الحرج، والآن آن الأوان لإعادة ترتيب الأوراق إن كان في العمر السياسي بقية.
اكتمل نِصَاب اللقاء ووصل حسين فوزي ومدحت سليمان وماجد الدسوقي ليبدأ الاجتماع بكلمة فارس بك، الذي قال: هناك قاعدة في السياسة تقول:
إن الناس تحترم مَنْ يُعرف عنه أنه إما صديق صادق أو عدو ثابت، أما مَنْ يُعرف عنه اللون الرمادي فلا انتماء حقيقي له، فإذا كانت الدفة لك كان معك، وإذا أدبرت عنك انقلب عليك، ثم أخرج التقرير وقرأه على مسامعهم.
اندهش الجميع من تفاصيل التقرير الدقيقة وغانم بركات يتظاهر بالثبات ويُحاول أن يشتبك مع فارس بك على طريقة المثل القائل: «رمتني بدائها وانسلَّت»، لكن بسبب يده المُكبَّلة بفضله عجز عن الرَّد، فحاول أن يبرر لجوءه إلى قنوات دعم أخرى بسبب المتغيرات السياسية، فقال:
لا تنسَ أننا نقف على أرضية مشتركة، فكما أن هناك أَخْذًا هناك أيضًا عطاء، فمَنْ يضمن لنا استمرار الدعم ورياح التغيير تعصف بالجميع، فمَنْ اضطر فلا إثم عليه، ونحن أرقام في معادلة واضحة ولسنا أصفارًا لتعاملنا بهذه الطريقة، فلن أسمح لأحد أن يدخلني في صراع صفري أخرج منه صفر اليدين.
زاد التوتر في القاعة بعد كلمة غانم بركات والجميع صامت ينظر بعضهم إلى بعض وفارس بك يُقلِّب أوراق التقرير ببطء استعدادًا للرَّد عليه، إلا أن حسين فوزي ينتابه سعادة غير عادية وينتظر ختام المشهد، فلم يتكلم واستمتع بلحظة الكسر التي انتظرها طويلًا لتنحية غانم بركات عن المشهد.
وبينما الأجواء ساخنة والنفوس مُحتقنة وممزوجة بمشاعر مُتضاربة بين الكراهية والتَّشفِّي، قال فارس بك: السياسي المُغامر ليس كالسياسي المُقامر، فالأول لا يُغامر بالمبدأ لأجل المصلحة الخاصة بل يوازن بينهما فيضحي بجزء من المصلحة في سبيل الحفاظ على المبدأ ليستمر في اللعب، أما الثاني يشتري المصلحة بثمن المبدأ حتى وإن كان تابعًا ولا يَملك من أمر نفسه إلا القدرة على ارتداء ثيابه، فيكون مصيره الخسارة والإبعاد؛ لأن قوانين السياسة تلفظه تلقائيًّا.
تقريع قاسٍ نزل على غانم بركات كالحمم البركانية من شدة لهبها وأصابه بتوقف دماغي مؤقت وهو ينظر إلى الشماتة الواضحة على وجوه الحاضرين، خاصة حسين فوزي، حتى ماجد سليمان الذي كان يأكل من فتات موائده كانت نظرات الشماتة تشعُّ من عينيه، فأحب أن يخرج من هذا المأزق بأقل الخسائر كعادته في حروبه السياسية، فقال: حين يتعادل الفريقان لا يفصل بينهما إلا وقت إضافي، والكرة ما زالت في الملعب.
هنا انتفض فارس بك ورَدَّ عليه بقوله: انتهت البطولة يا غانم ولم يعد لك مكانٌ في التشكيل، لقد خُنت المبدأ ولعبت بالنار فأحرقك لهيبها، وليس هذا اتفاقنا، وقد كانت لنا عيون تنقل لنا كل تحركاتك الأخيرة حين شعرنا بأنك لم تعد تلتزم بالأوامر وتلعب لصالحك، فالأفراد لا يمكنها أن تصارع الدول، فحين يشتد الخناق ويخرج أحدهم عن جادة المرسوم له يكن مصيره الحرق السياسي.
انفضَّ الجميع من حول غانم بركات وألقت به المُتغيرات السياسية من أعلى مكانة إلى الدَّرك الأسفل من التهميش والإقصاء، لفظته الظروف وتخلَّى عنه أقرب الناس إليه، سكت الدهر زمانًا عنه ثم أبكاه حزنًا وألما حين نطق، فرأى الحياة على حقيقتها لأول مرة، كان نائمًا حينًا من الدهر إلى أن أيقظته بضرباتها المفاجئة، فلم يجد لنفسه عزاءً يُجبر به نفسه المنكسرة، رغم ما يمتلك من أرصدة في البنوك، فماذا يفيد المال إذا الحياة مالت على الإنسان وكشفت له عن وجهها القبيح؟
مرَّت الأيام على غانم بركات ببطء شديد ينتقل من بلد إلى بلد آخر لعله يكسر حدة الملل؛ باحثًا عن حياة جديدة يمتلئ بها وتجعل لوجوده معنى فلم يجد، فقال لنفسه: إن أقدار الإنسان في الحياة هي صورة من عمله، ومَنْ اختزل الحياة في أمنه عاش يَشقى لها وإذا نالها شقى بها، فلا لوم على مَنْ تخلَّى عني، فكُلٌّ كان يعمل من أجل مصلحته وأنا أولهم كنت أسعى لمصلحتي ولم يشغلني أحد، ظننت أن الحياة سوف تفتح لي ذراعيها لتحتضن طمعي اللامحدود، لكنها كشَّرت لي عن أنيابها وعلمتني أن سُنن الكون لا تستثني أحدًا مهما أخذ الإنسان من التدابير والحذر، فمَنْ لا يحترم سُنن الكون علَّمته الأدب، أن كل من له ثمن رخيص.
لم أجد ما أختم به من وصف دقيق وحرفي لهذه الشخصية إلا ما قاله المتنبي:
وتراه أصغرَ ما تراه ناطقا.. ويكون أكذبَ ما يكون ويقسم !!