عشرون عاماً من الحرب الضروس في أفغانستان بين حركة طالبان بدائية التسليح من ناحية والقوة العسكرية الأمريكية المتوحشة من ناحية أخرى، لكن نتيجة الحرب لم تكن أبدا متوقعة.
كافة المقاييس العلمية والعقلية والتقنية منذ بداية الغزو الأمريكي للبلاد عام 2001 كانت تؤكد أن مواجهة حركة طالبان للجحافل الأمريكية هي ولا ريب نوعاً من الانتحار العسكري والسياسي من وجهة نظر المحللين العسكريين والسياسيين والاستراتيجيين،لكن ما كاد ينجلي غبار المعركة عام 2021 وما كادت الحرب أن تضع أوزارها حتى استيقظ العالم من وهم القوة الأمريكية ليستفيق على حقيقة الخروج الأمريكي المهين والانهيار المذهل لجيش أفغاني مكون من ثلاثمائة ألف مقاتل أنفقت أمريكا علي تدريبه وتسليحه عشرات المليارات على مدار العشرين عاماً المنصرمة.
الجيش الأمريكي الذي يعد أكبر قوة عسكرية على وجه الأرض واجه مقاتلي حركة طالبان الذين لا يتجاوزون خمسة وسبعين ألف مقاتل مزودين بأسلحة خفيفة ومعدات بدائية وهم حفاة الأقدام يواجهون الهمر الأمريكية بالموتوسيكلات.
وفيما تنقل قوات الجيش الأفغاني المدعومة بالجبروت الأمريكي معداتها بالطائرات والناقلات المصفحة كانت حركة طالبات تستخدم الحيوانات البدائية لنقل معداتها وإمداداتها على سفوح الجبال وفي أعماق الوديان،وتقلب المفاهيم العسكرية للاتحاد الأوروبي في هذا الحزام الملتهب من العالم.
وبينما يحاول الجميع الانتباه من الصدمة والاستيقاظ من وهم القوى العظمى التي تمرغت في التراب حتى أجبرت الرئيس الأمريكي علي وصف أفغانستان بأنها محطمة الإمبراطوريات، وهو وصف صادق ودقيق،استفاق العالم ليكتشف أن ثمة قوة فوق القوى العظمى وهي قوة الإرادة والعزم والإصرار على الحرية مهما كانت فداحة التضحيات.
الأحرار لا يستسلمون وشعارهم ننتصر أو نموت..مشهد أسطوري مهيب لسقوط الجيش الأفغاني المدجج بالسلاح والعتاد أمام حركة طالبات في أيام معدودات ودخول أسطوري للعاصمة كابول يعيد للأذهان فتح مكة دون إراقة دماء ليرى العالم طالبان جديدة منفتحة على الجميع، متسامحة ولكنها قوية،تمد يدها للجميع،حتى لحامد كرزاي أول رئيس أفغاني يأتي على ظهر الدبابات الأمريكة !
لم تتردد طالبان في دعوة كرزاي للحوار من أجل المصالحة الوطنية الشاملة،كل هذه الأحداث أصابت المشهد بالارتباك السياسي،نظراً لأن أفغانستان تقع في منطقة ملتهبة من العالم،ملاصقة للصين التي تخوض صراعاً مع المسلمين الإيغور الأمر الذي يثير حفيظة الصين خوفاً من انتقال عدوى طالبان إلى الداخل الصيني.
وكذلك روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي الذي تحطم في مستنقع أفغانستان أيضا، والذي مازال يهيمن علي عدة جمهوريات إسلامية،وهو ما يصيب روسيا بفوبيا استلهام النموذج الطالباني في أراضيها، وفي الغرب حدود أفغانستان مع إيران الشيعية ذات النفوذ داخل الأراضي الأفغانية من خلال الأقلية الشيعة من عرقية الهزارة، أما في الجنوب فتوجد باكستان النووية الملتهبة والتي تتمتع طالبان بنفوذ قوي داخلها ما يثير هواجس القوى العالمية المهيمنة في حالة اندماج أفغانستان وباكستان في دولة أسلامية كبرى موحدة.
وربما سعيها بعد ذلك للتوسع الخارجي في الجمهوريات الإسلامية المجاورة لإقامة إمبراطورية إسلامية كبرى تؤثر على توازن القوى الدولية.
بدت هذه المخاوف سريعاً من خلال استدعاء فرنسا للشاب أحمد شاه مسعود ابن المقاتل المخضرم السابق أحمد شاه مسعود الأب الذي كان يسيطر على إقليم بانجشير والذي قاتل الاتحاد السوفييتي طويلا، تم استدعاء الشاب للمشهد السياسي الأفغاني من قبل فرنسا لإشعال حرب أهلية ضد طالبان حتى لا تضع الحرب أوزارها في الداخل الأفغاني، ولكن قبيل ساعات قليلة ذهبت قوات طالبان وحاصرت إقليم بانجشير وأنذرته بالتسليم خلال ساعات.
وغير خاف أن أعمامه في ذات الإقليم بايعوا طالبان كما بايع شقيق الرئيس الأفغاني الهارب طالبان، فهل ستتحول أفغانستان من جديد إلى ساحة للصراع الدولي؟
وهل ستعمل أمريكا بعد انسحابها إلى تحويل أفغانستان إلى درع يحميها من التمدد الصيني باتجاه الشرق ؟
وهل ستكتفي روسيا بمراقبة المشهد في صمت ؟ أم أنها قد تتدخل عسكريا لحماية نفوذها الإقليمي ؟
وهل استطاعت روسيا أن تنسى هزيمتها المنكرة وتحطيم كبريائها العسكري السابق في أفغانستان ؟
وكيف ستتعامل إيران الساعية لأقامة إمبراطورية فارسية مع الأحداث ؟
بل أن السؤال الأخطر من كل الأسئلة السابقة هو: هل ستكون أفغانستان الفتيل الذي يشعل الحرب العالمية الثالثة ؟
هذه جملة من الأسئلة المطروحة والتي ستجيب عنها الأيام القادمة .
عبد الرحمن عيسى
باحث سياسي مصري