صرّحت مديرة صندوق النقد الدولي أن مصر قد تحتاج لإجراء الإصلاحات بوتيرة أبطأ ممّا كان يُتصوَّر سابقاً، لتجنُّب الإضرار باستقرار الاقتصاد الكلي، وسط التحضيرات لمراجعة حزمة الإنقاذ البالغة 3 مليارات دولار التي حصلت عليها البلاد من الصندوق.
كريستالينا غورغييفا قالت للصحفيين اليوم الخميس، على هامش اجتماعات الربيع في واشنطن” “في حين أن الصندوق ومصر “اتفقا على برنامج سليم”، مع ركائز تشمل تطبيق سعر صرف مرن للجنيه، وتعزيز دور القطاع الخاص، فإن سرعة الإجراءات المخطط لتنفيذها “تمّ تصميمها في الأصل في ظلِّ ظروف مختلفة”.
واعتبرت أن اتّباع تلك الخطة الأولية “يُمكن أن يقوّض استقرار الاقتصاد الكلي”، دون الخوض في تفاصيل أكثر تحديداً. مضيفةً: “لقد وصلنا في مصر إلى فهمٍ أعمق لمدى التعقيد، ليس على صعيد البيئة المحلية فحسب، وإنما الإقليمية والعالمية”.
أثّر الغزو الروسي لأوكرانيا على الاقتصاد المصري بشكلٍ خاص، حيث أدّى إلى زيادات كبيرة في أسعار الغذاء والوقود، وقلّص عائدات السياحة الحيوية للبلاد. كما تكافح أكبر دولة في الشرق الأوسط من حيث عدد السكان مع أسوأ أزمة شحّ عملة صعبة منذ سنوات.
خفّضت الحكومة المصرية قيمة الجنيه ثلاث مرات منذ مارس 2022، ما ساهم بالوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لكن هذا التخفيض دفع التضخم إلى أعلى مستوياته منذ حوالي خمس سنوات. وتلقت مصر تعهدات استثمارية بمليارات الدولارات من حلفائها في دول الخليج العربي الغنية بالنفط والغاز، لكنهم لم يضخوا معظم هذه الأموال بعد في انتظار مؤشرات على قيام السلطات المصرية بإصلاحات اقتصادية عميقة.
صندوق النقد الدولي أعلن في يناير الماضي أنه يُتوقع الانتهاء من المراجعة الأولى لبرنامج دعم مصر، ومدته 46 شهراً، في مارس. وأكدت غورغييفا: “نحن نستعد الآن لإجراء المراجعة، وتعمل الفرق على ذلك، وأنا على ثقة أننا سنحقق نتيجة جيدة”.
من ناحيتها، قالت مؤسسة “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة “الديمقراطية الآن للعالم العربي” إن اتفاق القرض الجديد الذي أبرمه “صندوق النقد الدولي” مع مصر بقيمة 3 مليارات دولار يتبنى النهج الاقتصادي المستمر ذاته الذي يترك الحقوق الاقتصادية للملايين بلا حماية.
يتضمن الاتفاق جهودا محسّنة لمعالجة المشاكل الهيكلية المتجذِّرة، مثل انعدام الشفافية بشأن دور الجيش في الاقتصاد وكذلك الحماية الاجتماعية غير الكافية. لكن ثمة بنود أخرى تخاطر بالإضرار بالحقوق، مثل التقشف وبيع أصول الدولة. هذا رابع قرض تحصل عليه مصر من صندوق النقد منذ العام 2016.
قالت سارة سعدون، باحثة أولى في الفقر وعدم المساواة في هيومن رايتس ووتش: “يواجه المصريون أزمة غلاء جعلت الملايين يكافحون للحصول على الغذاء وباقي حقوقهم الاقتصادية. رغم أن توسيع برنامج المساعدات عبر التحويلات النقدية في إطار برنامج صندوق النقد الدولي الجديد خطوة إيجابية، لكنها غير كافية لحماية الناس من التكاليف المتصاعدة التي يفاقمها البرنامج”.
سيوفر اتفاق القرض لمصر قرابة 3 مليارات دولار على مدى 46 شهرا لمساعدة الحكومة في الوفاء بميزانيتها وميزان مدفوعاتها وسط التدهور المتسارع للأوضاع الاقتصادية. وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد على القرض في ديسمبر/كانون الأول 2022، لكنه نُشر علنا في يناير/كانون الثاني 2023، ويُتوقع أن يُحفِّز تقديم 14 مليار دولار أخرى من التمويل الأجنبي.
ارتفاع حاد في الأسعار وحماية غير كافية
على مدار العام الماضي، أدى الارتفاع الحاد في التضخم وأسعار المواد الغذائية والسلع إلى إضعاف قدرة ملايين المصريين على الوصول إلى حقوقهم الاقتصادية. مصر هي إحدى أكبر مستوردي القمح في العالم، وقد تسبب الاضطراب في هذه الأسواق في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في ضعضعة اقتصاد البلاد المتهالك، والذي لم يتعافَ بعد من آثار وباء “كوفيد-19”.
في أكتوبر/تشرين الأول، أعلن “البنك المركزي المصري” عن الانتقال إلى سعر صرف مرن، وهو الركيزة الأساسية في برنامج صندوق النقد الدولي، ما تسبب في انخفاض إضافي في قيمة الجنيه بنسبة 23% ليصل إجمالي الانخفاض منذ فبراير/شباط 2022 إلى حوالي 50%. فاقم ذلك زيادة تكلفة استيراد المواد الغذائية، ما عرّض الأمن الغذائي للخطر. بحلول أكتوبر/تشرين الأول، كانت أسعار المواد الغذائية قد ارتفعت 37% عن العام المنصرم، وما زالت ترتفع.
في 2020، وهو آخر عام تتوفر عنه بيانات، أفاد “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء” في مصر أن واحدا من كل ثلاثة مصريين، أي حوالي 30 مليون شخص، هم تحت خط الفقر الوطني. ارتفع هذا الرقم على الأرجح جرّاء الوباء والأزمة الاقتصادية التي تلته، لا سيما وأن “البنك الدولي” يعتبر أن قرابة الثلث عرضة للفقر.
سعت برامج القروض السابقة إلى كبح جماح نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر، والتي بلغت 94% في 2016، وذلك بسبل شملت التخفيض الشديد للإنفاق الحكومي. منذ 2016، انخفض الإنفاق الحكومي من 11.43% من الناتج المحلي الإجمالي إلى قرابة 8%، وشمل ذلك تقليص الدعم، كما في دعم الوقود، ما زاد من تكلفة المعيشة. كما اعتمدت الإيرادات الجديدة إلى حد بعيد على ضرائب القيمة المضافة ذات الضرر غير المتناسب على الفقراء. تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي حاليا 88.5%.
وفقا لتقرير خبراء صندوق النقد الدولي لبرنامج القروض لعام 2016، كان من المتوقع أن تخفف مصر من تأثير الإصلاحات على الفقراء عبر “استخدام جزء من وفورات المالية العامة لتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي”، لكنّ مراجعةً للإنفاق العام أجراها البنك الدولي في سبتمبر/أيلول 2022 وجدت أن الوفورات الكبيرة في الميزانية “لم تُترجم إلى زيادات حقيقية في الإنفاق على برامج [المساعدة الاجتماعية] الرئيسية، والتي ظلت مستقرة عند حوالي 2.1% من إجمالي الناتج المحلي في السنة المالية 2020”. وجدت المراجعة أيضا أن “الإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي منخفض مقارنةً بالمعايير الدولية، وآخذ في التقلص بالقيمة الحقيقية”.
أنشأت الحكومة، بمساعدة البنك الدولي، برنامجَي “تكافل” و”كرامة” الجديدين للتحويلات النقدية واللذين يوفران الدعم للعائلات التي لديها أطفال، ومسنون، وأشخاص ذوو إعاقة، لكنهما يُدرجان نسبة صغيرة فقط ممن يعيشون في الفقر. في العام 2022، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي أن هذين البرنامجين سيتوسعان ليشملا 5 ملايين أسرة، رغم أن أرقام البنك الدولي تشير إلى أن 15 مليون أسرة تعيش في فقر أو قرب الفقر.
في خطوة إيجابية، يتضمن برنامج القرض الجديد معيارا هيكليا يجب إكماله، وهو أن تتحق تلك التوسعة في البرنامجين بحلول نهاية يناير/كانون الثاني 2023، ويتطلب هذا الشرط تصديقا من مجلس إدارة صندوق النقد في حالة عدم تحقيقه. يتضمن البرنامج أيضا هدفا لزيادة الحد الأدنى للإنفاق الاجتماعي، والمحدد بميزانيتَي وزارتَي الصحة والتضامن الاجتماعي، ليصبح 153 مليار جنيه (5.1 مليار دولار أمريكي في 24 يناير/كانون الثاني 2023) مقارنةً بـ115 مليار (7.3 مليار دولار في 1 فبراير/شباط 2022) في العام السابق. إلا أن هذه الزيادة الظاهرة تم محو مكاسبها بسبب انخفاض قيمة العملة، ما يجعلها غير كافية لحماية الحقوق الاقتصادية للأفراد من التأثير المشترك لإصلاحات البرنامج، وارتفاع التضخم، وخط الأساس المنخفض للإنفاق الاجتماعي في مصر.
قالت سعدون: “يبدو الحد الأدنى للإنفاق الاجتماعي المتزايد في قرض صندوق النقد الدولي الجديد رائعا على الورق، لكن هذه الزيادة في الحقيقة ما هي إلا سراب، إذ فرّغها من محتواها انخفاض قيمة العملة المصرية. كان ينبغي لصندوق النقد ومصر تعديل الحد الأدنى للإنفاق لضمان أن يكون كافيا لحماية حقوق الناس”.
على سبيل المثال، يتضمن البرنامج معيارا هيكليا لتقليل دعم الوقود بعد الزيادة الأخيرة لمساعدة الناس على التكيف مع ارتفاع الأسعار. كما تعهدت الحكومة بتحري أي مكاسب إضافية في الكفاءة في دعم المواد الغذائية، والتي يعتمد عليها أكثر من 70 مليون مصري، كما في الخبز المدعوم حكوميا. يُتوَقع ازدياد الإنفاق على دعم المواد الغذائية في اتفاقية القرض بالقيمة الاسمية، ولكنه سينخفض من 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 1%، ما يشير إلى إصلاحات محتملة.
كما تعهدت السلطات المصرية بتوسيع تغطية سجلها الاجتماعي، وهو قاعدة بيانات لتحديد الأهلية والمستفيدين من المزايا والخدمات الاجتماعية، ليشمل 50 مليون شخص بحلول نهاية 2023. ونظرا إلى فجوات التغطية الكبيرة لبرامج مثل تكافل وكرامة، يشكل توسيع السجل الاجتماعي في مصر خطوة مهمة. لكن الغرض المعلن من هذا التوسع هو إدخال الاستهداف في مخططات الحماية الاجتماعية الأخرى، رغم الأبحاث المتزايدة التي أظهرت أن برامج الحماية الاجتماعية الشاملة أكثر فاعلية في الحد من الفقر وعدم المساواة.
انعدام الشفافية في التعاملات التجارية للجيش
يعتمد تحسين المشاكل الاقتصادية المزمنة في مصر إلى حد كبير على معالجة سوء الإدارة المتأصل النابع من أن الحكومة تعطي الأولوية لسيطرتها السياسية، بما في ذلك الدور المتنامي وغير الخاضع للمساءلة الذي يلعبه الجيش في الاقتصاد.
تحجب الحكومة المصرية تماما عن الرأي العام المعاملات المالية لشبكات الشركات العائدة للأجهزة العسكرية، والتي تُنتج سلعا مدنية في الغالب، ما يجعلها عرضة للفساد وتقويض الرقابة المدنية على تمويل الجيش المصري، المسؤول بدوره عن انتهاكات خطيرة. كما استخدمت الحكومة إجراءات قمعية لحماية القوة الاقتصادية للجيش.
في خطوة إيجابية تخرج عن الممارسات السابقة وتتوافق مع التوصيات التي وجّهتها هيومن رايتس ووتش وشركاؤها بانتظام إلى صندوق النقد الدولي، تتضمن اتفاقية الصندوق مع مصر بعض الخطوات لزيادة شفافية الأصول المملوكة للدولة، والتي حُددت على أنها تشمل الشركات “المملوكة للجيش”.
على سبيل المثال، سيُطلب من جميع المؤسسات المملوكة للدولة تقديم حسابات مالية نصف سنوية إلى وزارة المالية ستُنشر إلى جانب بيانات حول أي إعانات تتلقاها. كما وافقت الحكومة على نشر كافة عقود المشتريات العامة التي تتجاوز 20 مليون جنيه. إلا أنها لم تلتزم بإدراج معلومات الجهة المالكة المستفيدة – أي من يتحكم فعليا في الشركة – في حالة الشركات التي حصلت على عقود، وهو أمر التزمت بالقيام به في برنامج قروض سابق.
لكن العبرة في التنفيذ، إذ تقاعست الحكومة المصرية في ظل البرامج السابقة عن تقليص دور الجيش في الاقتصاد أو جعله أكثر شفافية وخضوعا للمساءلة. في الواقع، وافق الصندوق على تقارير من الحكومة المصرية حول الشركات المملوكة للدولة يستبعد الشركات المملوكة للجيش ويوافق أيضا على عمليات الإفصاح المعيبة عن المشتريات المتعلقة بالإنفاق الحكومي المتصل بفيروس “كورونا”.
كما قد يؤدي تركيز البرنامج الشديد على بيع الأصول الحكومية إلى خطر الفساد الذي يصب في مصلحة البلدان ذات السجلات الحقوقية التعسفية. يُتوقع أن تجمع مصر من بيع أصول مملوكة للدولة قرابة 8 مليارات دولار، معظمها من دول الخليج. في يوليو/تموز، اشترت السعودية حصص الأقلية في أربع شركات مقابل 1.3 مليار دولار. ثمة تاريخ طويل من استخدام عمليات البيع مثل هذه لإثراء النخبة السياسية في دول منها مصر نفسها.
في حين يتضمن اتفاق القرض بعض الخطوات المهمة للحد من مخاطر الفساد، مثل إيداع عائدات هذه المبيعات في حساب مخصص في البنك المركزي المصري، فإن الصندوق له قدرة محدودة على ضمان دقة التقييمات. كما أن لدول الخليج ذات السجل الحافل بالانتهاكات الحقوقية تاريخ في استخدام الدعم المالي للضغط على الدول لدعم أهدافها السياسية الإقليمية، بما فيها قمع الجماعات المستقلة، مثل “الإخوان المسلمين”، أو دعم العمليات العسكرية للتحالف بقيادة السعودية والإمارات في اليمن.
قال جون هوفمان، مدير الأبحاث في منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي: “يشكل الدور الواسع وغير الخاضع للمساءلة للجيش المصري في الاقتصاد مخاطر حقوقية جسيمة، ومن الجيد أن صندوق النقد الدولي أخيرا يسلط الضوء على ذلك. لكن بيع أصول الدولة على نطاق واسع بدون تنظيم فعال ورقابة شفافة يهدد بإفادة الدول التي لديها سجل من الانتهاكات الحقوقية”.
المصدر:الشادوف+وكالات الأنباء