ونحن نتحدّث عن الظاهرة الاستبدادية، ربما يكون من المناسب أن نستدعي قصة جمال الجمل، الذي لا يعد صحفيا ماهرا فقط، وإنما، أيضا، مثقفاً أصيلاً. إنه يذكّر بمن سمّاهم أستاذنا حامد ربيع “أصحاب الوظيفة الكفاحية”، ويقصد بهم الذين أعيُنهم على الناس، وحديثهم عن السلطة لا يكون إلا نداءً لها أو عليها لمراعاة ضروراتهم، والتأكيد على مطالبهم. ويذكّر أيضا بوصف غرامشي للمثقف العضوي؛ الذي يندرج بين الناس، فيتعرّف على همومهم، يتأمل بقلمه، ويستمسك بفكره حقا وصدقا وعدلا. هو من الروّاد الذين لا يكذبون أهلهم وبني وطنهم. يعبّر عن نفسه بقلمٍ يكتب به عن آلام الناس كما يستشرف آمالهم. الأمر هنا لا يتعلق بمفكرٍ يمكن تصنيفه؛ ذلك أن من يهتم بالناس ومعاشهم وشأن عدالتهم والتأكيد على ضروراتهم لا يمكن تصنيفه، لأنه مع هموم الناس المتعارف عليها ومع آلامهم المختلفة؛ فيكون القلم هو الجامع بين هؤلاء، ينفث به الهموم، ويحاول أن يتلمّس بفكره الحلول.
عاش المثقف العضوي والصحفي النابه، جمال الجمل، في تركيا سنين قليلة، ولكن قرّر أن يعود إلى بلده ووطنه الذي أحبّه وهام به، مؤكّدا أن الوطن، في النهاية، هو محضنه، ومبتغاه الأصيل، فالوطن له، لا يستطيع أحدٌ أن ينتزعه منه، ليس مجرّد خيار يرتبط بقرار، وإنما هو ركن عتيد يأوي إليه، يجد فيه كل أمر يتعلق بذاته وقدراته. جمال من هؤلاء الذين يحملون رسالة؛ الكتابة لديهم عنوان شرف، والقلم سلاح عزّة، وكتاباتهم وعي بصير، يعبر عن إحساسهم بالناس وإحساس الناس بهم. كنت أتطلع إليه وأطلّ عليه في المكان، حينما يكتب المقال، فأجده مجاورا لي، وكان ذلك فألا حسنا. وأخيرا، افتقدته كثيرا وافتقدت مقاله الذي كان، بالنسبة لي، “ميزان الحرارة” الذي أعرف منه أن مشكلات قد تكون لدى هذا المثقف الرسالي، إلا أنه، في النهاية، صلب الإرادة عزيز النفس.
افتقدني يوما حينما أصبت بالمرض، فكتب مقاله الذي حينما قرأته دمعت عيناي، ذلك أن هذا الرجل، الذي يحمل فكرا عميقا وعقلا بصيرا، رأيته في المقال يحمل وجدانا رقيقا ونفْسا حانية، يصفني بما لا أستحق. وكان قد عاد إلى الكتابة حينما افتقدني، وكتب “كان غياب مقاله وصورته في عمود الإشارات في موعده أمس على يسار هذه الصفحة كفيلا بخروجي من صومعتي وامتناعي الإداري عن الكتابة لإلقاء التحية، وإرسال أمنيات السلامة والعودة العاجلة لنداءات المواطنة التي تبنّاها في معظم مقالاته، كما يتبنّى الشباب في إطار جهده الواعي والنبيل لتحرير السياسة من ذئابها المحترفين، وإعادتها إلى الناس، بلا لغة خشبية وتصريحات كاذبة لخداع الناس”. كنت لا زالت على عتبات المرض، وفي طريقي للخروج من حصار كورونا، وكانت تلك الكلمات بمثابة علاج لي. قرأتها فكانت بلسما شافيا فجّرت في عقلي الأفكار. ودفعني ذلك المقال إلى النهوض من مرقدي، وأكتب مقالتي، على الرغم من التعب الشديد الذي حلّ بي، والآلام الذي كنتُ لا أقوى معها على التفكير الصافي، أو الكتابة في شأن السياسة ومعاش الناس.
كم أفتقدك، يا جمال؟ كم أشعر بالاحتياج إليك؟ لستم أنتم فقط من سعد بزيارتي له؛ ولكني كنت الأسعد حينما أقابل هذا النبع الصافي والصدق الوافي لشخصٍ نادر في وجوده، نادرٍ في علاقاته، نادرٍ في عمق فكره، وقليلون من هم كذلك. أفتقد كلماتك التي دفعتني إلى أن أنهض من مرقدي، متناسيا مرضي، حتى أكتب مقالي، فأكون على تواصل معك، حينما تجد المقال في المكان والزمان الذي اعتدته؛ في ظل اهتماماتنا المشتركة بالوطن، سواء مصر أو الوطن العربي، وقضيته فلسطين التي هي مقياس لكل وطني، ومقياس لحقيقة المواقف الكبرى، حينما يكون الصحفي والمثقف صاحب رسالة وقضية. وكأنه كان يتحدّث عن خطورة نظم الاستبداد، حينما تنبطح أمام العدو انبطاحا استراتيجيا، فتقبل مصطلحات العدو، بل إنها يمكن أن تموّه على عداوته، وتبرّر صلافته وتمرّر اغتصابه. إن صحفيا من هذا القبيل، ومثقفا عضويا من هذا الطراز، إنما يشكل بحق معنى الضمير في الأمة، يعبر عن عموم الناس ومعاشهم وهمومهم، وينسج من خيوط العزة والكرامة ومن صلابة الصمود والإرادة، ليربط ذلك كله بنفسه الأبية وإرادته العصية على كل استهداف أو محاولة لإضعافها أو كسرها.
وحينما أفتقد جمال، وأتفقد كتاباته، فإنني أتألم ألما كبيرا؛ وأقول له “كلنا خذلناك، كلنا ظلمناك، كلنا لم يقم بواجبه في رفع قدرك وكل ما يتعلق بالحفاظ على صمود إرادتك”. ولهذا شأن آخر، ولكنه خذلانٌ قد يدفع صاحب الإرادة الصلبة إلى أن يتخذ من القرارات التي تتعلق بالعودة إلى وطنه، وهو يعرف أن النظام يتربّص به، لكنه لا يملك إلا العودة. وكما ترك مصر ليعبر عن عدم رضاه وغضبه، عاد إلى مصر ليعبر عن عدم رضاه وغضبه مرتين؛ سواء من معارضة الخارج التي لم تُحسن وفادته أو الاستفادة من رسالته، أو من النظام الفاشي الغبي الذي كان من الممكن أن يستقبل هذا الصحفي النابه وقد عاد، ليقدّم من ذاته نموذجا لقبول النظام معارضة من الداخل، كما يروّج على ألسنة قادته وجوقة إعلامه؛ إلا أن هؤلاء أثبتوا أنهم بقدر من الغطرسة والغباء في ظل نظام فاشي، لا يعرف إلا النهج الأمني. والنهج الأمني غبيٌّ بطريقته، إن لم يكن له عقل يقدّر فيه المسائل الأخرى، فيهذّب من بطشه وطغيانه، فسيكون وبالا، ليس فقط على منظومته، ولكن على أهل وطنه. من المؤسف حقا أن ينال ذلك من شرفاء الوطن فيعتقلهم، ويلفق لهم القضايا، وكان السبب في اغترابهم؛ يحاصرهم ليل نهار؛ ويطاردهم ويحاربهم حتى في أوراقهم الثبوتية؛ لا يجد في ذلك غضاضةً، ولكنه يستخفّ بكل شيء؛ ما دام يحمي كرسي الطاغية تحت اسم مضلل، “أمن الدولة” وما هو بأمن ولا دولة. إنما في حقيقة الأمر غباء مستحكم، وغطرسة مستطيرة وصناعة زيف وتزوير أمة. كان لهذا النظام أن يستقبله فيروج قدرته في استعادة هؤلاء الذين خرجوا ليعارضوا من الخارج؛ ولكن منظومة الانقلاب، وعلى رأسها عبد الفتاح السيسي، لا زالت تتعامل مع القضية باعتبارها مباراة صفرية.
مؤسفٌ حقا أن يتحدّث قائد الانقلاب، في أحدث تصريحاته، عن الجمهورية الثانية التي وطّد لها ببناء عاصمة إدارية جديدة، وهو لا يدرك ما قاله جمال حمدان عن مشروع بناء العاصمة البديلة بأنها “حماقة”، و”تفكير غبي” لا يعرف للقاهرة حقها، ولا يتعرّف على إشكالاتها الحقيقية؛ ولا يعي أن العاصمة الحية لا يمكن أن تستبدل بعاصمةٍ ميتة، فهو لا يعرف إلا تدشين جمهورية الخوف بنظامها الفاشي التي ابتدعها وأسس أركانها، وأسماها دولة. إنها منظومة استبداد فاشي غبي، لا يملك من الأفعال والسياسات أي ذرّة عقل من تفكير أو تدبير، فكان من الطبيعي أن يستقبل جمال الجمل بسجنه واعتقاله وتلفيق القضايا له، “إن الله لا يصلح عمل المفسدين”.
الدكتور سيف الدين عبد الفتاح
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
المقال نشر فى صحيفة ( العربي الجديد) بتاريخ 12 مارس 2021
و(الشادوف) يعيد نشره بمناسبة مرور 50 يوما على وجود الزميل جمال الجمل فى السجون المصرية.
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@