كتب: أحمد حسن الشرقاوي
دارت الدنيا برأس الأم إلهام (28 عاما )..ساقتها أقدامها إلى شوارع القاهرة الواسعة، تلك الشوارع متحجرة القلب، متبلدة الأحاسيس. تلك المدينة الضخمة التي يكرهها قرويون اضطروا للعيش فيها لمجرد أن بها العمل والخدمات. وهي، أي القاهرة، تبادلهم نفس المشاعر.
لم يكن بين يدي إلهام الشابة مالا تشترى به الحليب لطفلتها الرضيعة. لم يكن لديها مالا تشتري به الطعام لطفلتها الأخرى التي تبلغ من العمر 8 أعوام. ضاق تفكيرها وتمحور حول حل واحد ووحيد.. الانتحار وقتل الطفلتين بإلقاءهما فى النيل والتخلص من عبء تربيتهما في ظل ضيق ذات اليد.
في ذلك اليوم الشتوي البارد من أيام شهر ديسمبر، وفي لحظة تفكير مجنونة غاب فيها العقل ، حملت الأم اليائسة طفلتيها: ( أمينة ) التي تبلغ من العمر عامين فقط، و (سارة) – 8 أعوام وذهبت الى كوبري قصر النيل بوسط القاهرة.
ذلك الكوبري الضخم الذي يتزين بتماثيل أربعة أسود على مداخله من الجانبين: اثنان من ناحية الجيزة، واثنان من ناحية القاهرة. جاءت إلهام من ناحية القاهرة بعد ان نزلت من أتوبيس نقلها مع أطفالها من شرق القاهرة الى ميدان التحرير.
سارت تلك المسافة الفاصلة بين مواقف الأتوبيس والسرفيس المواجهة لتمثال الشهيد عبد المنعم رياض وحتى كوبري قصر النيل مع طفلتيها. توقفت فى منطقة تقع في منتصف الكوبري تماما. نظرت الى مياه النيل التي تتدفق تحت الكوبري. سرت في جسدها قشعريرة خفيفة بسبب البرد وبسبب تلك الفكرة المجنونة التي تسيطر عليها منذ أيام.
تمنت لو أنها لم تتزوجه، ولم تنجب منه ، ولم تعش معه تجربة الانفصال والطلاق والهروب من قريتها قرب المنصورة الى القاهرة ذات القلب المتحجر، والتي يعيش فيها الملايين من سكانها الغرباء عنها. منذ وطأت أقدامها تلك المدينة الأسمنتية الضخمة، شعرت أن القاهريين يرونها عبئا جديدا عليهم فى مدينتهم. لا يعرفون أنها مضطرة ولا تستطيع العودة لقريتها بعد أن هجرتها هاربة نحو أضواء المدينة المبهرة. خذلتها المدينة وخذلتها قدرتها على الاحتمال، وخذلتها أحلامها الضائعة وظروفها القاسية.
لا يعرف بعض القاهريين أن أبناء الريف لديهم كرامة ولا يمكنهم التخلى عن كرامتهم مقابل الحفاظ على الحياة ولا يمكن لبعضهم التنازل مقابل حياة أطفالهم حتى. قالت لنفسها: الموت أفضل من تلك الحياة. كانت جادة واستمعت لصدى صوتها يتجدد: الموت أفضل من تلك الحياة. كانت الطفلة أمينة تعبث بخصلتي شعر خرجتا من تحت غطاء الرأس الذي اعتمرته والدتها الشابة. وبقدر ما شعرت الأم بمشاعر الأمومة والحب للطفلة فى تلك اللحظة، بقدر ما شعرت بجدية الفكرة التي تريد تنفيذها، وبجدواها، بل وبأهميتها !!
أعادت الأم الطفلة الصغيرة من بين أحضانها للأرض مجددا، وقفت الطفلة الرضيعة الى جانب أمها وتشبثت بملابسها. لم تكن الصغيرة تدرك ما حولها، ولا تعي أنها ربما تكون فى اللحظات الأخيرة من حياتها القصيرة. جلست على الأرض وبدأت تلتقط بعض الحصى وتضعه في فمها لتسد به جوعها. نظرت الأم بأسى وحسرة للأفق البعيد، واستمرت فى التحديق فى المياه بينما تختلط مشاعرها بين اليأس والقهر والألم،. كانت سارة على يمينها، وأمينة على يسارها..
عادت الفكرة المجنونة تلح مجددا: لا حل سوى أن ألقي بالطفلتين فى الماء ثم أقفز ورائهما لنموت جميعا، لم يعد للحياة قيمة، ولم نجد من يحنو علينا، سنذهب الى خالقنا وليسامحني الله.
في تلك اللحظة نظرت الى الطفلتين فوجدت الكبرى ترمقها باستغراب بينما بدأت الطفلة الصغيرة تطلب الطعام وتبكي بكاء مريرا وتشد ثوبها لحثها على إرضاعها أو جلب الطعام لها لأنها جائعة. كانت إلهام جائعة أيضا، ولم يكن صدرها يحمل نقطة لبن واحدة بل يؤلمها من كثرة تلك المرات التي حاولت فيها الطفلة استدرار لبن الأم لتسد به رمقها وجوعها.
لم تشعر ( إلهام ) بالضيق من بكاء الصغيرة كما تشعر به الآن. لم يكن ضيقا فقط بل ضجرا وقلة حيلة وعجز متسربل بكل معاني اليأس والقنوط.. في تلك اللحظة كان الشيطان يسكن عقلها. انتهزت فرصة خلو كوبري قصر النيل من المارة، التفتت الى اليمين والى اليسار، ثم رفعت الطفلة الصغيرة بين ذراعيها وألقتها في الماء لتسقط في النهر ويسحبها التيار تحت الكوبري الذي تقف عليه!
في تلك اللحظة شعرت الطفلة الثانية سارة بالفزع وصرخت: ” أختي .. أمينة.. أمينة”، فقامت الأم بجذبها من شعرها وامسكت بذراعها بينما قامت الطفلة بالصراخ، وتشبثت بملابس الأم، كمن لا يريد مغادرة ذلك الحضن الدافيء الذي لا تدري لماذا تغيرت مشاعره تجاهها وتجاه اختها الصغري؟
الأم كانت فى حالة ذهول، وهي تواجه مشاعر متناقضة : مشاعر الأم التي تحمل الحب والعطف والرحمة، ومشاعر من ينوء بحمل مسؤولية أثقلت كاهله ولا يستطيع تحملها لوقت أكثر من ذلك، وهو يوشك على التخلص من هذا العبء، بل والتخلص من نفسها وحياتها كلها.
ملعونة تلك الظروف التي تجبرني على قتل أطفالي: فلذة كبدي، صرخت الأم المكلومة: ” أوعي يابت، ياللا.. خلينا نخلص.. ملعون أبو دي دنيا، ملعون أبو دي أيام سودا.. ملعون أبو دي بلد”.
أحد المارة كان رجلا أربعينيا، جامعيا يعمل في وظيفة حكومية بوسط القاهرة واعتاد على عبور كوبري قصر النيل يوميا مشيا على الأقدام للوصول الى عمله فى مجمع التحرير بعد أن يركن سيارته في شارع الدقي. سمع الرجل عبارة الأم، فأدرك فى الحال أنها تعتزم قتل بناتها ثم الانتحار، فقفز مسرعا ليمسك بالطفلة من قدمها اليمني، وصارت الطفلة ممزقة بين الطرفين.
تحدث مع الأم بكلمات حاسمة وحازمة، نهرها بشدة، والتقط من يدها الطفلة التي صار نصف جسدها يتدلي من فوق سور الكوبري ويوشك أن يسقط فى النيل. جذبها الرجل وخلصها تماما من يد أمها التي تجردت فى لحظة من مشاعر الأمومة والانسانية، وخيل لها شيطانها أنه بوفاة طفلتيها، ستتخلص من عبء الحياة وضيق ذات اليد، وهي المعاناة التي بدأت من قريتها في عزبة هجرس التابعة لمركز بلقاس بمحافظة الدقهلية ولازمتها فى القاهرة الصاخبة الدامية، قاسية القلب.
جريمة الأم ومأساة صغيرتيها كشفتها تحقيقات القضية رقم 9253 لسنة 2021 جنايات قسم قصر النيل والمقيدة برقم 667 لسنة 2021 كلي وسط القاهرة، والتي أحالتها جهات التحقيق أمس الثلاثاء للمحاكمة، ووقائع الجريمة حدثت في شهر ديسمبر 2021 الماضي، ووجهت فيها جهات التحقيق للأم ( إلهام ع ص) تهم القتل العمد مع سبق الإصرار لطفلتها المجني عليها ( أمينة إ إ) والشروع في قتل طفلتها الثانية سارة.
أقرت الأم في التحقيقات بأنها ارتكبت جريمتها الأولى وشرعت في ارتكاب الثانية، حيث كانت مبرراتها ودافعها للجريمتين هو اليأس من ضيق العيش، وأنها رغبت في إلقاء طفلتيها في نهر النيل ليقضيا غرقا، وأنها أيضا اعتزمت إلقاء نفسها ورائهما لكي تنتحر وتتخلص من حياتها.
وبموجب مواد قانون الإجراءات الجنائية، أحالت النيابة العامة القضية لمحكمة الجنايات المختصة بدائرة محكمة استئناف القاهرة، لمعاقبة المتهمة طبقا لمواد الاتهام، مع استمرار حبسها احتياطيا على ذمة المحاكمة، وندب محام للدفاع عنها، وإعلان المتهمة بأمر الإحالة.
المصدر: الشادوف