الفنان التشكيلي الراحل محمود سعيد هو صاحب أغلى لوحتين فى تاريخ الفن المصري والعربي المعاصر وهما لوحات: الدراويش والشادوف، والذي بلغ إجمالي سعرهما نحو خمسة ملايين دولار أمريكي.
الدراويش تجاوز سعرها مليونين ونصف المليون دولار واحتلت المرتبة الأولى، والثانية الشادوف وسعرها يقل قليلا عن المليونين ونصف المليون دولار، وهي التي ألهمتنا اسم موقعنا: الشادوف!
الغريب أن الكثير من المصريين، وخصوصا النخب المتعلمة والمثقفة، يتذكرون المذيع الشهير في إذاعة صوت العرب في ستينيات القرن الماضي (أحمد سعيد)، أكثر مما يتذكرون الفنان السكندري المبدع (محمود سعيد) (1897 –1964) الذي يعد الأب الروحي للفن التشكيلي المصري الحديث.
ويقول المأثور الشعبي المصري: (أحمد زي الحاج أحمد) هذا أحمد سعيد، وذاك محمود سعيد، فما الفرق؟!
في حالتنا تلك، فإن البون شاسع بين أحمد سعيد ومحمود سعيد. الأول صاحب البيانات النارية الكاذبة عن مسار حرب 5 يونيو/حزيران من العام 1967، والثاني يعد أشهر رسام عربي بل وشرق أوسطي ومن المعروفين تماما فى أوساط الفنانين التشكيليين والمثقفين فى العالم الغربي لا العربي !!
باختصار: كان دور محمود سعيد في الفن المصري والعربي موازياً لدور سيد درويش في الموسيقى.
كلاهما كرَّس مواهبه للتعبير عن البيئة والموضوعات المصرية الصميمة، فكانا من ضمن قلة نادرة من فنانين قدموا بفنهم تعبيراً شاملاً عن بلادهم، ملامسين حياة الناس العاديين ومتجاوزين الواقع إلى الرمز للجمع بين يقظة الروح ويقظة الحس.
وُلد محمود سعيد في 8 أبريل 1897 وتُوفي في 8 أبريل 1964 في الأسكندرية، وهو أحد روّاد المدرسة المصرية الحديثة في الفنون التشكيلية. وينحدر من أسرة أرستقراطية، فهو ابن رئيس وزراء مصر السابق محمد سعيد باشا، وخال الملكة فريدة، زوجة الملك فاروق الأولى، وقد استقال من عمله الوظيفي القانوني ليتفرغ للوحاته بعد سن الأربعين, بعد أن عانى صعوبة الجمع بين المتناقضات، علماً أنه تأثر بطبيعة عمله القانوني وانعكس ذلك على معظم لوحاته.
تمثل أعمال سعيد إحدى الدعائم الأساسية في بناء الفن التشكيلي الحديث في مصر منذ أوائل القرن الماضي، بما انفردت به من خصائص مميزة في التعبير، إذ شاركت في موجة الإخصاب الفني والعلمي والثقافي التي اجتاحت مصر منذ بداية الربع الثاني للقرن العشرين لتوافر مناخ التحرر من التقليدية، فاستحق مبدعها أن يكون أول فنان تشكيلي مصري يحصل على جائزة الدولة للفنون.
ولاتزال تجليات محمود سعيد الفنية كحالة استثنائية متوهجة بل تملأ الأفق وتشغل الناس حتى يومنا هذا، وبالطبع، لا يمكن أن تتم هذه التجليات الفردية لسعيد بمعزل عن إحداثيات واقع بأكمله من حركة فنية ومجتمع أهلي وإدارة سياسية وحكومية وثقافية تأخذ بمقاليد الأمور في سائر المجالات، ومن بينها الفن.
هذه الملابسات، بجميع تشابكاتها، هي التي بلورت – ببساطة – ظاهرة محمود سعيد الفنية المتحدّية للمكان والزمان، وهي التي تفسر – بمرارة – كيف بلغ الانحدار والإهمال الى حد سرقة خمس لوحات دفعة وحدة من أعمال سعيد من قلب متحف الفن الحديث في يناير 2017، هي: “بنت البلد”، “نبوية”، “الهجرة”، “زيارة القبور”، “الصلاة”.
لم يكن محمود سعيد ليصل إلى ما وصل إليه لو أنه مجرد نموذج عبقري للاجتهاد الشخصي، فالشاب ذو النشأة الأرستقراطية وجد الدعم الملائم من الأب محمد سعيد باشا رئيس وزراء مصر الأسبق، الذي يقدر قيمة الفن، فلم يقف كحجر عثرة في طريق اتجاهه عام (1919) إلى دراسة الفن.
هذا الالتفات الحكومي والرسمي لقيمة الفنون والآداب، والفن التشكيلي على وجه الخصوص، لم يكن قاصرًا على محمود سعيد بوصفه إبناً لرئيس الوزراء، إنما كانت الحكومات المتعاقبة في العهد الملكي في النصف الأول من القرن العشرين تأخذ على عاتقها النهوض بالرسامين والنحّاتين وتوفير المتطلبات اللازمة لهم لإبراز وجه مصر المعماري الحضاري.
«الدراويش المولوية» وهي أحد أعمال محمود سعيد المبكرة، تُظهر ستة من دراويش المولوية بملامح متشابهة وملابس متماثلة، مع فروق في وضعيَّة كلٍّ منهم أثناء أداء الأذكار الدينية في الحقبة العثمانية. انشغل الفنان الكبير محمود سعيد طوال رحلته الفنية بالموضوعات الدينية، فأخذته فكرة الموت والدفن والآخرة والتصوف والتعبد في مراحل النضج الفني المبكرة، خصوصا في لوحاته: الدفن 1926، الرسول 1924، قبور باكوس برمل الإسكندرية 1927، الدراويش المولوية 1929، الصلاة 1934، الذكر 1936، المصلى 1941، دعاء المتعطل 1946، واختتمها بلوحة المقرئ في السرادق 1960.
وربما السبب يعود إلى نشأته في رحاب مسجد أبي العباس في الإسكندرية، ومسجد الأباصيري وسيدي تمراز والعدوي وقبور السبع مشايخ، وفي هذه الأجواء شهد سعيد خلال طفولته وصباه حلقات الذكر والاحتفالات الدينية والموالد وسمعها وحضرها وشارك فيها، وتنسم خلال تلك المشاركات عبق البخور المنبعث من قبور الأولياء الصالحين، واختبر بنفسه علاقة المكان بالناس، وحدد فى أعماله المساحة بالغة الحساسية بين الناس وسيكولوجية المكان، كما فعل محمود مختار عندما أدرك بعبقريته حجم ودور العلاقة بين الكتلة والفراغ فى تمثال نهضة مصر الشهير.
لكن البعض يرى في لوحات محمود سعيد وجها من التناقض بحسب نقاده، فهو يقدّم السمة الصراعية بين الفضيلة (الدرويش والصلاة) والمجون (في موضوع العاريات في الإسكندرية اللواتي يقتربن من عالم بودلير)، أو يجمع بين السفور الشهواني والصفاء الروحي، وتعيش صوره بين واقعية الفوتوغراف من جهة، وهذيان السيريالية من جهة أخرى.
إن مشاركة محمود سعيد بأعماله الفنية في التعبير عن أحداث وطنية ومجتمعية كبرى من قبيل لوحة “افتتاح قناة السويس” في عهد الخديو إسماعيل، هي نموذج لذلك الانسجام (النخبوي – الحكومي – الشعبي)، من أجل إطلاق الفن الأصيل في الهواء الطلق، ومثل هذه النماذج كثيرة ومتكررة في عصر النهضة.
من ثمرات هذا التوجه، على سبيل المثال، تمثال “نهضة مصر” للنحّات الرائد محمود مختار (1891-1934) المصنوع من الغرانيت للتعبير عن مصر الحديثة من خلال فتاة تقف بجوار “أبو الهول” وتتطلع إلى المستقبل بتفاؤل.
وقد تمت إقامة التمثال في مصر بعد افتتان سعد زغلول باشا ورجالات حزب الوفد بأعمال الفنان مختار، وموافقة مجلس الوزراء في 1921 على دعمه، وإسهام الشعب المصري في اكتتاب عام لإقامته، ومن جهتها أكملت الحكومة النفقات، لتصير الفكرة واقعًا.
هذا هو مناخ مصر النهضة، الذي أسفر عن أعمال محمود سعيد المتحفية والميدانية، وغيره من الفنانين الطليعيين، وهو ما يبدو بعيدًا كل البعد عن الوضع القائم حاليًا، حيث السلسلة التي تتكرر حلقاتها من حالات الإهمال والسرقات والتهريب للأعمال الفنية، بل والآثار المصرية النادرة.
وحينما يريد مسؤولو “مصر الغاربة” نسبة الى واحدة من لوحات مختار بعنون “شمس مصر الغاربة”، حينما يريد بعض هؤلاء المسؤولين الجهلة الإدلاء بدلوهم في مجالات الفن التشكيلي، فإنهم لا يتوانون عن إغراق الشوارع والميادين بتماثيل وأعمال رديئة يقوم على تنفيذها موظفون محليون وأجهزة إدارية لا تمت للفن بأي صلة لا من قريب ولا من بعيد.