“جمهورية زفتى” اسم مسلسل درامي مصري عُرض في العام 1998م، يروي قصة حقيقية لأحد مراكز محافظة الغربية بمصر، حدثت أثناء ثورة 1919م، حين أعلنت البلدة استقلالها باسم “جمهورية زفتى”، ما استدعى من سلطة الاحتلال الإنجليزي إرسال قوة عسكرية كبيرة لقمع الثورة.
قصة زفتى كان من الممكن أنْ تندثر في زحمة الأحداث، لولا أنْ خلدتها الدراما، فأرّخت لقصة المعاناة والمقاومة في البلدة كنموذج مُصغّر لقصة مصر كلها، التي عانى شعبها ثُلاثي الظلم: الاحتلال الإنجليزي، والملكية الحاكمة، والنظام الإقطاعي، فشهد البطش العسكري، والاستبداد السياسي، والاستغلال الاقتصادي.
الجانب الآخر من الصورة التي رسمتها الدراما هو ( المقاومة ) التي قادها محامٍ شاب من المثقفين الثوريين، وحّدَ أهل البلدة بكل فئاتهم وشخصياتهم تحت لواء الثورة، فانضم إليه إمام مسجد البلدة، وضابط قسم الشرطة، ومطرب القرية، ورئيس عصابة “المطاريد” أيضاً… وأعلنوا جميعاً قيام “جمهورية زفتى” لمدة قصيرة من الزمن، انتهت بإرسال جيش الاحتلال قوة عسكرية قضت على الثورة.
المسلسل قدّم نماذج إنسانية متناقضة جمعت بين الثوار المخلصين والانتهازيين، وبين الوطنيين الصادقين والمذبذبين، وبين الشهداء الأخيار والخونة الأشرار. دراما المقاومة في مسلسل “جمهورية زفتى” أكدت صورة المعاناة والمظلومية من جهة، وصورة المقاومة والبطولة من جهة أخرى، وهي القيم نفسها التي أكدها مسلسل “التغريبة الفلسطينية” السوري، الذي صُنّف كأفضل عمل درامي عالج القضية الفلسطينية تاريخياً واجتماعياً، فصوّر الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، كما صوّر البطولة التي واجه بها الشعب الفلسطيني الاحتلال الإنجليزي والمشروع الصهيوني، وهو يُقدّم الرواية الفلسطينية للصراع بطريقة واقعية تُظهر معاناة النكبة والتشرّد واللجوء، ولم يغفل عن تسجيل بعض عناصر الضعف في المجتمع الفلسطيني قبل النكبة، كالتفاوت الطبقي والتنازع العائلي وقتل النساء بالشُبهة.
كما قدّم نماذج إنسانية واقعية، منها الفلاح البسيط، والعامل الكادح، والمثقّف الثائر، والتاجر الانتهازي، والإقطاعي المستغِل، والعميل الخائن… وتأكيداً لقيمة المقاومة والبطولة، انتهى المسلسل بطريقة رمزية مفتوحة تدلّ على استمرار الشعب الفلسطيني في المقاومة جيلاً بعد جيل. يظهر ذلك في المشهد الأخير للمسلسل، عندما يُخرج رشدي بندقية والده الشهيد من مخبئها ليواصل طريق المقاومة.
وعندما تكون الدراما مقاومة، تُقدم الدراما الفلسطينية من غزة المُحاصرة والصامدة والمقاوِمة صوراً جميلة من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، كان آخرها في عملين دراميين؛ أحدهما يصوّر معاناة مدينة القدس وأهلها من الاحتلال والاستيطان والتهويد والتهجير والتضييق والضرائب والمخدرات… وهو مسلسل “بوابة السماء” بجزأيه الأول والثاني، الذي يجمع بين المعاناة والصمود والمقاومة، من خلال إظهار مدى تمسك المقدسيين بأرضهم وبيوتهم وقوة دفاعهم عن المسجد الأقصى، ويُقدم العديد من نماذج المظلومية والبطولة في حالات الشهداء والأسرى والجرحى والمرأة الصامدة المرابطة والرجل الفدائي المقاوم، والعمل الدرامي الآخر هو مسلسل “ميلاد الفجر” المُستوحى من أحداث حقيقية وقعت في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وأرّخت للمرحلة الأولى من ميلاد حركة “الجهاد الإسلامي” في فلسطين، كإحدى أهم حركات المقاومة الفلسطينية، برؤيتها النوعية التي تجمع بين الإسلام وفلسطين والمقاومة، وهي المرحلة التي سبقت الانتفاضة الأولى وهيأتها ورافقتها حتى العمليات الاستشهادية الكبيرة منتصف التسعينيات.
هذا المسلسل يؤكد فكرة المقاومة بطريقة درامية تُظهر جرائم الاحتلال وبطولات المقاومة، كما تُظهر تماسك الشعب الفلسطيني وتوحّده خلف المقاومة، وتُبيّن قيم المجتمع الفلسطيني المسانِدة للمقاومة وروح التعاون والتكافل التي تسكن الأسر الفلسطينية، وخصوصاً في أوقات الأزمات.
هذه نماذج من دراما المقاومة تستطيع مع غيرها تحدّي تيار دراما التطبيع الموجّه من بعض الأنظمة الحاكمة، فتُبطِل الرواية الإسرائيلية الصهيونية للصراع بالرواية الفلسطينية العربية، وتواجه شرعنة العلاقات مع الصهاينة بتجريم العلاقات معهم، وتؤكد تعريف “إسرائيل” كعدوّ للأمة، مقابل إعادة تعريف العدو بعيداً من “إسرائيل” في دراما التطبيع، وتستطيع مواجهة تيار التفاهة في الدراما، فتواجه السطحية بالعمق، والإسفاف بالسمو، والجهل بالوعي، والتبعية بالأصالة، والخضوع بالممانعة، والانحلال بالالتزام، والإفساد بالأخلاق، والاستبداد بالثورة، والاحتلال بالمقاومة…
وعندما تكون الدراما مقاومة، فإنها تستطيع مواجهة تيار التحريم الصحراوي الجامد الذي جعل منها موضوعاً لتفريغ عقده الفكرية، وحاجته للاشتباك الدائم مع غيره، ورغبته في الهجوم المستمر على الآخر الذي لا يشبهه، فاعتبرها رجساً من عمل الأشرار، ودنساً لا يقوم به إلا أهل النار، فتركها لهم بفنّهم الرديء المُفسِد للناس، من دون أن يستفيد من الدراما كأحد أهم أبواب الدعوة والثورة.
وعندما تكون الدراما مقاومة، يكون الفن راقياً تلتقي فيه قيم الجمال والحق، فيكون الشكلُ جميلاً والمضمونُ حقاً، فيتجسّد الجمال والحق في قصيدة شاعر، أو نثر أديب، أو ريشة رسام، أو لحن موسيقار، أو صوت مُغنٍ، أو دراما ممثل…
وحين يكون الفنُ مقاوماً، فإنه يمتلك صواب الفكر، وصدق الأدب، وسمو الفن، وخصوصاً إذا كان الحديث عن فن الدراما، وتحديداً دراما المقاومة، التي تجعل من الدراما سلاحاً يقاوم الظلم بكل أشكاله، ولا سيما الاحتلال والاستبداد، وليست مجرد تصوير للمقاومة بالتمثيل، فتزرع في العقل وعياً، وتغرس في القلب إيماناً، وتفجّر في النفس ثورة، وتجعل الشعب أكثر ثقة بنفسه وقدراته، وأكثر إدراكاً لواقعه وحاضره، وأشدّ تمسكاً بقضيته وحقوقه، وأقوى إصراراً لامتلاك إرادته ومستقبله.
وأخيراً، عندما تكون الدراما مقاومة، تنتشر ثقافة المقاومة؛ ثقافة النصر المُضادة لثقافة الهزيمة الناتجة من دراما التطبيع، والفرق بينهما كالفرق بين الحياة والموت؛ الحياة الكامنة في إرادة النصر وحياة العزة والكرامة، والموت الكامن في فقدان إرادة النصر والرضا بحياة الذلة والمهانة.
النصر والهزيمة كثقافة يفصلهما الاستسلام أو عدم الاستسلام لإرادة العدو، مهما كانت نتيجة المعركة العسكرية، نصراً أو هزيمة، فالنصر يُلازم الشعوب والمقاومين ما داموا لم يلقوا السلاح وواصلوا طريق الكفاح، والهزيمة لا تأتي بعد الهزيمة العسكرية للجيش أو المقاومة فقط، ولكنها تأتي بعد الهزيمة النفسية وفقدان إرادة النصر أيضاً أو بعد إنكار الهزيمة، مُكابرةً للنفس ومُعاندة للواقع الذي يُكرّس ديمومة الهزيمة. وهنا، تكون الهزيمة مُضاعفة. ولكي لا نصل إلى تلك المرحلة من الهزيمة، نحن بحاجة إلى ثقافة المقاومة وفن المقاومة ودراما المقاومة.
الدكتور وليد القططي
كاتب ومحاضر بجامعة الإسراء بفلسطين
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية