الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ما هو المثير للغضب والباعث للحزن والألم؛ في مشهد مثول الدكتور محمود عزت أمام القضاء وشكواه مما يعانيه في محبسه؟ أهو الاعتراض على نظام بلغ في الظلم والقسوة منتهاه؟ ولم يعد يرحم حتى شيبة شيخ فانٍ وعجوز قد خارت قواه؟ أم هو الإشفاق على رجل من رجال الإسلام قضى نحبه في العمل لدين الله؛ ثم هو اليوم يُهان كما لو كان قضى عمره بين سكر وقمار أو اختلاس وفساد؟ أم إنّ المشهد استدعى صور المعذبين في سجون الطاغية ولا يجدون لأنفسهم مخرجا من هذا الهمّ الواصب ولا لأهليهم عزاء عمّا فقدوه من كبيرٍ عائل أو صغيرٍ طامحٍ آمِل؟
قُلْ: إنّ ذلك كله قد هجم بقوة وشراسة على القلوب والمشاعر، واستدعى صورا كثيرة ومشاهد عديدة لإهانات تعرض لها كبار؛ فلا نزال نذكر المشهد المؤسف الذي دفع فيه قزم من أقزام النظام ذلك الطود الشامخ “محمد بديع”، ولا نزال نذكر الطريقة المهينة التي كان يتحدث بها أولئك اللقطاء الجالسون على منصات القضاء؛ مع فخامة الرئيس الشهيد الأستاذ الدكتور محمد مرسي رحمه الله، لا نزال نذكر ذلك كله؛ فهي صور ومشاهد محفورة في ذاكرة المأساة، تشير بقوة إلى مستوى الذل الذي انحدرنا إليه.
لكنَّ تلك البواعثَ كلَّها على ثقلها وضراوتها لا تساوي شيئا بجانب الباعث الأكبر على الحزن والأسى والألم، الباعث الذي يمكن أن يكون مدمرا إلى أقصى حد، أو باعثا إلى أبعد مدى، الباعث الذي يثيره هذا السؤال: وأين نحن؟ أين الجماعة؟ أين الأمة؟ أين المسلمون؟ إنّ أمّة يهان كبارها لَأُمَّةٌ مستكينة، وإنّ جماعةً تُفَرِّط في كرامة رموزها لَجَماعةٌ منفرطةُ العقدِ تائهةٌ في الشعاب والوديان!
إنّني – وأن كنت أختلف اختلافا شديدا مع الدكتور محمود عزت بل ومع المرشد نفسه لأسباب لها تعلق مباشر بموضوعنا هذا – أشعر بأنّ ما جرى لأحدهما اليوم وللآخر بالأمس صفعة على وجهي وركلة في بطني؛ لأنّ الإهانة لشخص يُعَدُّ رمزا لجماعة بحجم جماعة الإخوان إهانة بالغة لكل غيور على دينه وعلى أمته، ولست أشك في أنّ ما أشعر به الآن يشعر به كل مسلم غيور مهما كان انتماؤه الحزبي ومهما كان موطنه الذي يسكنه وقومه الذين إليهم ينتمي.
ومع ذلك فليس هذا هو المهم الآن، المهم هو أن نبحث عن الأسباب التي بسببها أهين هؤلاء وغيرهم، والتي بسببها اجترأ المجرمون على اعتقال نسائنا بل وعلى العدوان على أعراض البعض منهن، وإنّه والله ليس وراء ذلك كُلِّه من سبب إلا أنّنا أَهَنَّا أنفسنا يوم أن فرطنا في أسباب القوة؛ فرطنا فيها يوم أن كانت لدينا شرعية ثورية في 2011م، ثم فرطنا فيها يوم أن كانت لدينا شرعية سياسية في 2012م، ثم فرطنا فيها يوم أن كان لدينا شباب بعدد الرمال تنطوي صدورهم على طاقة إيمانية متوقدة في 2013م، وفرطنا فيها يوم أن أثبتت التجربة أنّ ما أخذ بالقوة يوشك أن يُسترد بالقوة في 2015م.
وليت ذلك التفريط وقع على وجه الخطأ العابر أو الغفلة اللحظية، ولكن مع الأسف وقع بالمخالفة الصريحة لمنهج الله تعالى، ومع الأسف الشديد لازلنا مُصِرِّين عليه إلى اليوم، ومع بالغ الأسف والأسى لا يُنْتَظَرُ منّا أن نتخلى عنه على المدى القصير والمتوسط، فقد قامت الثورة وليس بين أيدينا رؤية محددة ولا مشروع واضح، بل لم يكن عندنا تصور صحيح لحقيقة النظام الذي قامت عليه الثورة؛ لذلك أحْسَنّا به الظنّ، باستثناء رأس النظام؛ فالمجلس العسكريّ زاهد في الحكم يتورع عن تحمل مسئولية ليس أهلا لها، والسيسي مسلم وزوجته تحفظ القرآن مع الأخوات، ولدينا في الداخلية والجيش (رجال من ذهب!)، وحتى جهاز أمن الدولة لم يكن سوى عصى بها بعض النتوءات السامّة؛ لو هذبت وشذبت وخضد شوكها لكانت قوتها لنا على (شلة المشاغبين) في الشوارع والميادين، ومن اللحظات الأولى تسابق الجميع إسلاميون وغير إسلاميين إلى الجلوس مع العسكر والتفاوض معهم كل فريق على طريقته، ولم يصغ أحد منّا يوما لصوت الحقّ: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (هود: 113)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران: 118).
ومع ذلك وَسِعَنَا حلمُ الله ولطفُه وإحسانُه؛ ولِمَ لا؟ ألسنا نرفع لواء الشريعة ونقول الإسلام هو الحلّ؟ فلنأخذ الفرصة مرة ثانية، وإذا كانت الشرعية الثورية لم تكف لمنحنا الحق في الحسم بما نملك من قوة؛ فها هي الشرعية السياسية، تَعْطَى لنا، ولم تُعطَ بهذه المصداقية لأحد قبلنا، فماذا صنعنا بها؟! لماذا لم تمتد أيدينا ونحن ممثلون لهذا الشعب إلى أدوات الإكراه في الدولة لنحوزها ونعزز بها شرعية المؤسسات المنتخبة؟ ليس عندنا جواب إلا شنق التجربة برمتها على أعواد (المراجعات!)؛ إذْ لم يكن لنا – بزعم المراجعات – طاقة بإدارة البلاد! ولا استعداد للرئاسة أو التمثيل للشعب بالأغلبية! إِذَنْ: ففيم كان جهادنا السياسي وسعينا الدستوري على مدى نصف قرن من الزمان أو يزيد؟!
وعلى الرغم من ذلك كله غَمَرَنا اللهُ تعالى – في رابعة – بعفوه وغفرانه، وأمدنا بمدد من عنده، شبابٍ يملأ الشوارع والميادين وينتظر الإشارة من (القيادات!)، ليبذل دماءه رخيصة في سبيل انقاذ البلاد واستعادة المسار الثوري ورد الحياة إلى الربيع العربيّ كله، ولكنّنا آثرنا أن يُقتلوا مدبرين ويُستشهدوا مقهورين، بدلا من أن يُقتلوا مقبلين ويُستشهدوا على أعتاب النصر المبين؛ ذلك لأنّ (سلميتنا أقوى من الرصاص!)، ومن ثم تبددت الطاقات التي كانت متوقدة، وضاعت الفرصة التاريخية التي كانت سانحة.
لكنّ عطاء الله لم ينقطع، ولم ينقطع بإزائه الاختبار والامتحان؛ فبرغم كل هذا القهر نهض للأمر رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ فكانت البداية ب(العمل النوعيّ) ثم لم تكن النهاية التي كانوا يرتبون لها؛ لا لشيء إلا لأنّ زعامات (كبيرة!) أَبَتْ ذلك؛ لماذا؟ لا ندري! كل الذي ندريه أنّ ما جرى ليس له تفسير واقعيّ، ولا نجرؤ على أن نرمي أحدا بالخيانة والعمالة.
وأخيرا فإنّ الطريق أمامنا لا يزال مفتوحا، برغم أنّه قد تعقد وتعسر، فمن أراد أن يحدث شيئا ولو كان مجرد رفع الضغط عن المعتقلين أو إخراج المعتقلات أو إرغام النظام على أن يعامل القيادات باحترام؛ فعليه بامتلاك القوة بكافة أنواعها وصنوفها، وإلا فلا يَطْمَعَنَّ في أيّ شيء ولو كان (الصلح) الذي يتحدث بعضهم عنه ويلهج أكثرهم بذكره، اللهم إلا صلحَ إذعانٍ يحصد فيه النظام كل المكاسب مقابل مكسب واحد وهو أن يعطينا حياة، أيَّ حياة!
فإن لم نفعل فنحن جميعا جيل الانقلاب، لا نحسن إلا الانقلابات، قد انقلب بعضنا على بعض؛ لنبرهن على وجود القانون الإلهي: (قل هو من عند أنفسكم) أي: ما أصابنا من انقلاب إنّما هو لأنّ أنفسنا مريضة بالانقلاب، وتحمل جينات الانقلاب، وما وقع علينا من اختطاف للدولة ما كان ليقع إلا لأنّنا خلايا اختطافية نائمة، ومن تمام عدل الله أن يكون (الجزاء من جنس العمل).
إنّ امتلاك القوة واجب الوقت، يأتي متزامنا مع واجب إعداد الرؤية الصحيحة المنبثقة من المنهج الإسلاميّ الرشيد، ومن قرأ التاريخ لم يجد فيه ثورة واحدة نجحت واستقرت وآتت ثمارها بمجرد الهتاف والتصفيق والمشي في الشوارع والأزقة، ولا شك عند العقلاء الفاهمين في أنّ هذا المنهج هو الذي يحمي الشباب من الغلو والتطرف ومن الدعشنة البغيضة الكريهة، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60).
الدكتور عطية عدلان
أستاذ الفقه وأصوله والسياسة الشرعية بجامعة المدينة العالمية بماليزيا سابقاً،
من مؤلفاته: الأحكام الشرعية للنوازل السياسية
وموسوعة القواعد الفقهية للمعاملات المالية
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع وسياساته التحريرية