هذه حقيقة، يوم الثلاثاء الماضي الموافق 12 أكتوبر 2021، أجريت عملية جراحية كبيرة لاستئصال أورام من منطقة البطن والحوض..قبلها كنت أعيش حياتي بدون أي منغصات أو أعراض لأي مرض. لم أكتب شيئا على مواقع التواصل قبل إجراء العملية لأسباب تتعلق بي وبشخصيتي وأشياء كثيرة أخرى، لكن زوجتي الغالية وبعض الأصدقاء المقربين كتبوا (بعد العملية أو ربما أثناء إجراء العملية ) يطلبون من الأصدقاء والمتابعين الدعاء لي.
وأقسم لكم أنني أستشعرت نسائم الرحمة وأثر الدعاء حينما كنت في تلك المساحة الصغيرة الضيقة التي تنحشر فيها النفس بين الموت والحياة !! مساحة التخدير الكامل. مساحة الموت المؤقت، أو الحياة المتجمدة في مواجهة موت غير مؤكد…
في تلك المنطقة التي تدخلها طائعا مختارا، يظل عقلك يعمل.. روحك موجودة هائمة حائرة، لكن وعاء الروح وهو الجسد يظل مشلولا مكبلا، غير واع، وغير مرتاح أبدا.
كنت منتبها، أداعب من حولي خلال رحلة طويلة نسبيا من غرفة الإقامة الى غرفة العمليات..
ورغم دعابات طبيب التخدير المصري وحسه الفكاهي، كنت متيقظا، حتى عندما تحداني للعد حتى الرقم ٥، ظللت أعد حتى رقم ٩، ثم دخلت لمنطقة ملساء ناعمة، ترى فيها زهورا ومروجا ونسيما عليلا.. لا بشر قابلتهم في تلك المنطقة التي بدت كممر ضيق يسمح فقط بالمرور الآمن لشخص واحد !!
تذكرت أسرتي وأولادي وأصدقائي، لكن الاستدعاء لذهني لم يكن سوى مجرد صور تظهر ثم تختفي بسرعة.
مللت من الوحدة والسير ولكنني فجأة، شعرت أن صدري امتلأ بالهواء النقي في تلك المنطقة التي شعرت دوما أنها تشبه مدخل جهاز الرنين المغناطيسي أو الأشعة المقطعية. إنها حقا :” عنق الزجاجة”.
شعرت بإتساع المكان لا ضيقه، شعرت بالرحابة، أخذت نفسا عميقا دون أن يطلب مني أحد. سحبت الهواء النقي البارد وملأت صدري به. شعرت حينها أنني على طاولة معدنية في مستشفى ميداني في أحد سهول أوروبا الباردة خلال معركة من معارك الحرب العالمية الأولى !!
جاءني رجل طويل رفيع له أنف بارز مدبب ويلبس ملابس المهرجين، انحنى أمام وجهي، و نظر فى عيني نصف المغمضة وسألني بغضب وحدة: كيف أُصبتَ؟! لماذا لم تتجنب تلك الأشياء؟! هل نحن في ترف الوقت لنقوم بعلاجك ورعايتك؟!!
لم أرد علي أسئلته، لأنني استشعرت في أعماق نفسي أنني أكرهه وأحتقره رغم أنني لا أعرفه !! لماذا جاءني وسألني، لماذا أنا بالذات وسط كل تلك الجثث والمصابين فى هذا المستشفى الميداني؟!
الأهم من كل تلك الأسئلة، أنني لا أعرف أصلا سبب إصابتي، وماذا حدث لي. مرت لحظة صمت كان هذا الكائن البشع يرمقني بنظرات كلها غيظ وحقد وكراهية بينما كنت أفتش في عقلي عن إجابة لأسئلة لا أعرف اجاباتها .. يبدو أن الرجل شعر أنني لن أرد، ولا أعرف أصلا ردا على أسئلته، لذلك، أشاح بيده في وجهي ثم هرول تجاه خيمة مقابلة..وكانت هذه لحظة سيئة..
كنت أتمدد على تلك الطاولة المعدنية، وأشعر ببرودة ملمسها في أكتافي وظهري العاريين، وأرى خياما بيضاء ووجوه نساء عابرة كالطيف أو البرق، وأرى رجالا كلهم يرتدون اللون الأبيض.. هل هذه هي بداية الولوج الى عالم ما بعد الموت.سألت نفسي ثم أجبت: ربما !!
بعد فترة شرود بسيطة، قررت اقناع نفسي بأنني أتمدد حاليا على أريكتي المفضلة في صالة البيت أشاهد ذلك المسلسل الرائع عن الحرب العالمية الأولي، قلت لنفسي: يبدو أنك اندمجت في أحداث المسلسل، ونمت على كنبة الصالة، ولن يلبث أن يذكرك ياسين أو أمه بأن تستيقظ وتذهب لغرفة النوم في الطابق الثاني !!
قمت بتحسس المكان الذي أنام عليه بيدي اليمني، لأتأكد مجددا أنها ليست كنبة الصالة في منزلي، فهي طاولة معدنية باردة، ولا يحمل ملمسها دفء ونعومة الكنبة التي اشتريتها قبل عامين من محلات( هومز آر أص) في الدوحة.
في هذه اللحظة شعرت بحيرة وانهالت التساؤلات تتدفق على رأسي: أين أنا؟! ماذا يحدث؟!! نهرت نفسي، وقلت: يا سيد أحمد هل نسيت أنك تخضع لعملية جراحية كبيرة، وأنها جاءت بشكل غير متوقع.. ومفاجيء تماما!!
بدأت أتمالك نفسي: نعم أنا الآن تحت التخدير.. أنا أخضع حاليا لعملية جراحية قالوا أنها ربما تستغرق ٦ أو ٧ ساعات كاملة !!
سألت نفسي: من هؤلاء.. وماذا أرى؟ وهل هذا هو البرزخ؟! هل هذا هو ممر الدخول لعالم ما بعد الموت ؟!!
في تلك اللحظة قلت لنفسي: يا سيد أحمد، توقف عن الفضول والفلسفة والأسئلة، هذا ليس وقت كل تلك الأمور.. هذا هو وقت اللجوء إلى الله والتسليم له، وطلب عونه ومساعدته.. شعرت في نفس اللحظة بسيل منهمر ينسكب فوق رأسي وصدري وجسدي كله.. حاولت أن أتبين ما يحدث..
انتابني إحساس لا أستطيع وصفه.. شعرت أن هناك يدا بيضاء بدون وجه محدد، هذه اليد تغمر جسمي كله بسائل بارد ثقيل، لم أتبين سوى أن لونه أبيض كالثلج.
قامت تلك اليد الرقيقة الطيبة بتجفيف وجهي ورأسي وصدري، برفق ولين وهدوء. أحسست بعافية وقوة تسري في جسدي، ولم أعد أشعر بأية أوجاع أو آلام بل أصبحت أقوى مما كنت!! صرت أشعر أنني أفضل.
قررت هنا أن استسلم للنعاس، وأن أنام نوما عميقا. أغمضت عيني ولا أدري كم استغرق الوقت، ثم فتحت عيني، فوجدت زوجتي وأسرتي حولي يبتسمون كالملائكة ويقولون لي:” حمدا لله على السلامة”.
تلاشت تلك “القوة الروحية” التي شعرت بها أثناء فترة التخدير الكامل، لتبدأ آلام الجراحة والعلاج بالمسكنات، شعرت أن للروح قوة تختلف عن قوة البدن، وأنها قوى مترابطة وليست منفصلة، وأن تلك القوى هي التي تساعد الإنسان لمواجهة التحديات التي يقابلها في حياته. قوة الروح هبة مباشرة من الخالق العظيم للإنسان ..والدعاء أحد أسبابها،
الله سبحانه و تعالى كان إلى جانبي في تلك المحنة وكلي يقين أن دعوات القراء والأقارب والأصدقاء والمتابعين على وسائل التواصل كانت سببا من أسباب نزول رحمة ربي عليّ وعلى عائلتي.
أشكركم جميعا
وأسأل الله ألا يحرمني من دعواتكم.
أحمد حسن الشرقاوي
سياسي وصحافي مصري
نائب مدير وكالة أنباء الشرق الأوسط ( أ.ش.أ) سابقا
مدير مكتب وكالة الأنباء المصرية ( أ.ش.أ) في لندن ( 2002-2006 )
المقال نشر فى الدوحة في ١٩ أكتوبر ٢٠٢١
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
الآراء الواردة فى مقالات الرأي تعبر عن صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن موقع الشادوف أو سياساته التحريرية