في مصر.. السمكة تفسد من الرأس!

صورة الكوبري الملاصق للعمارات والبيوت فى حيّ الهرم بمحافظة الجيزة بمصر، انتشرت مؤخراً انتشار النار في الهشيم، لدرجة أنها وصلت لصحف عالمية كبرى، مما تسبب في إحراج شديد للسلطات المصرية.
الصورة تلخص حال مصر المحشورة في عنق زجاجة، مثل الكوبري الذي يلتصق بالنوافذ والشرفات، ويحجب الشمس والهواء والرؤية عن كثير من البيوت، خصوصاً في الأدوار الأرضية.
الصورة تعكس التلوث الذي أصاب الحياة العامة في مصر خلال السنوات الماضية، إنه نوع من التلوث البصري، بمعنى وجود أذى للعين نتيجة مشاهدتها، هذا فضلاً عن التلوث السمعي نتيجة مكبّرات الصوت وعوادم السيارات وغيرها.
التلوث السمعي ثم البصري قاد -في تقديري- إلى ما يمكن تسميته بالتلوث النفسي في مصر، والأخير أنواعه متعددة، وما يهمنا فيه هو التلوث السياسي. وهو ببساطة نتاج لكل أنواع التلوث الأخرى في المجتمع، بما في ذلك تلوث البيئة من هواء وماء وتربة.
التلوث في السياسة ينتج عن التلوث النفسي، وكما قلنا من قبل إن التلوث النفسي ينتج عن اضطراب في المنظومة الطبيعية للأخلاق والقيم والأعراف السليمة، ناجم عن التعرض لفترة طويلة لأشكال متعددة من التلوث السمعي والبصري وغيرهما من أنواع التلوث الأخرى.
والتلوث السياسي ببساطة هو تغييرات -أو بالأحرى أعراض مرضية- تطرأ على الفطرة البشرية السوية للإنسان الطبيعي، فتجعله يميل إلى الانتهازية والوصولية والتملّق والنفاق والجشع، وتستدعي أسوأ ما في النفس البشرية، لتجعلها أساس تصرفات السياسي في عمله، ناهيك عن سيطرتها أيضاً على حياته الشخصية.
ولا أبالغ إذا قلت إن النظم العسكرية المتعاقبة في مصر لجأت إلى تشجيع «التلوث السياسي» لدى النخب المصرية في النواحي كافة، بل إن الفرز الطبيعي للنخب في ظل النظم العسكرية لم يكن يجري وفقاً لأسس الإخلاص والنزاهة والكفاءة أو الوطنية، بل ساد معيار الفساد الأخلاقي بحيث صار التصعيد مضموناً لأصحاب أكبر قدر من التلوث السياسي!!
المهم أن شيوع هذا التلوث في مجال السياسة ترك بصماته على جميع السياسيين المصريين طوال فترة حكم العسكر الممتدة على مدى ستة عقود ونيف، بحيث لم نصل إلى سياسي واحد نقي طوال تلك المدة إلا من رحم ربي، فالجميع تحكمه الانتهازية السياسية لأن التربة التي نشأ وترعرع فيها ذلك السياسي كانت تربة ملوثة .
نفر قليل ممن دخلوا مجال العمل السياسي أو تولوا مناصب وزارية من هؤلاء الشرفاء، خرجوا منها بسرعة البرق، أذكر منهم ، فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي تولى وزارة الأوقاف في حكومة ممدوح سالم في عهد السادات، وخرج منها بعد شهور، وكذلك اللواء أحمد رشدي وزير الداخلية المصري الذي لم يستمر في موقعه سوى أقل من عامين 1986-1988م، حينما تحالفت ضده مافيا التلوث السياسي مع الفساد في عهد مبارك، مما دفعه للاستقالة من منصبه، بعد أن استطاع في تلك الفترة الوجيزة أن يكسب قلوب وعقول المصريين، باعتباره من أشرف ضباط الداخلية المصرية على مدار تاريخها.
أحمد رشدي كان الوزير الوحيد الذي يصرّ على أن يدفع ثمن بنزين سيارته الحكومية المخصصة لزياراته الخاصة والعائلية، وهو الوزير الوحيد الذي ينزل إلى الشارع في تلك الفترة، ليتفقد ضباطه وجنوده ويشاركهم بنفسه في تنظيم حركة المرور والسير في العاصمة.
كان هذا الرجل مثالاً ونموذجاً لوزير أو مسؤول كبير لم يتلوث سياسياً، لكن الفساد والتلوث السياسي قضيا عليه سريعاً، وهذه في النهاية مسؤولية الحاكم ونظام الحكم، السمكة تفسد دائماً من الرأس.

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية

Comments (0)
Add Comment