عندما نرى مظاهر التخبط في بعض بلدان العرب التي اعتقدت شعوبها أنها تخلصت من الفوضى و الإستبداد و أنها دخلت نادي الحريات و الديمقراطية نتذكر -بعد فوات الأوان- نصائح زعيم إفريقي كبير أسداها للعرب في حينها (سنة 2011) و لم يعملوا بها.
منذ عشرة أعوام بالضبط وتحديدا يوم الثلاثاء 09 أغسطس 2011 أخذ الزعيم نيلسون مانديلا قلمه و أهدى للعرب باقة من الحِكَم والنصائح رغم سنه المتقدمة ومشاغله العديدة فقد كان يستجيب لنداء وجداني هتف به ضميره عندما وردت عليه أنباء ما يسمى الربيع العربي وتيقن بحدسه القوي أن هذه الإنتفاضات العربية مهددة بالإجهاض لأنه أدرك مدى إنحراف قادتها الذين عوضوا الأنظمة المخلوعة ومستوى الأخطاء التي وقعوا فيها حين فتحوا أبواب الإنتقام، واعتقدوا أن التاريخ يبدأ من يوم تنصيبهم وأن ما كان قبلهم لم يكن سوى خراب ويباب.
تكلم الزعيم مانديلا بلسان التجربة والحنكة والنجاح في منهجه حيث إختار طريق الوفاق والمصالحة حين عين رجل الكنيسة الأب (ديسموند توتو) على رأس لجنة (العدالة و الحقيقة) التي كانت غايتها طي الصفحة وتدشين عهد جديد لا يلغي مواطنيه البيض ولا يعلي عليهم السود إنما أقر أن لكل مواطن كرامة وحقوقا وصوتا في الإنتخابات.
ونعلم بعد ذلك أن جنوب إفريقيا استعادت منزلتها المتقدمة في المحافل الدولية وعاشت فترات طويلة من الأمن الأهلي والسلام المدني.
وأراد مانديلا ألا يقع الحكام العرب الذين أتت بهم هذه الثورات في مطبات الإقصاء والتفكير في بناء دولة على لا شيء ولكن لا حياة لمن تنادي حتى بلغت أغلبية من شعوب العرب درجة الترحم على الطغاة.. والكفر بالتغيير، وربما الاستعداد لهزات أخرى تقوض البقية المتبقية من المكاسب، مثلما رأينا تفكك مؤسسات الدولة في أغلب بلدان الربيع فيكاد يقنط من حلها أكثرنا تفاؤلا.
وللتذكير نعيد للأذهان بعض فقرات من نصائح الرجل الحكيم، وقد كتب مانديلا للعرب فقال: “أعتذر أولاً عن الخوض في شؤونكم الخاصة وسامحوني إن كنت دسست أنفي فيما لا ينبغي أن تُقحَمُ فيه، لكني أحسست أن واجب النصح أولاً والوفاء ثانيًا لما أوليتمونا إياه من مساندة أيام قراع التمييز العنصري يحتمان علي رد الجميل، وإن بإبداء رأي محّصته التجارب وعجنتْه الأيامُ وأنضجته السجون”
ثم يعيد الزعيم الكبير التذكير بالمنعرج الحاسم و المفصلي الذي دفعه في طريق الوفاق الوطني فيكتب: “أحبتي ثوار العرب مازلت أذكر ذلك اليوم بوضوح كان يومًا مشمسًا من أيام كيب تاون خرجت من السجن بعد أن سُلِخت بين جدرانه 27 سنة من العمر.. خرجت إلى الدنيا بعدما وُورِيتُ عنها سبعًا وعشرين عامًا لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد.. ورغم أن اللحظة أمام سجن (فكتور فستر) كانت كثيفة على المستوى الشخصي إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها كان هو:” كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلاً؟
هكذا تساءل مانديلا في أواخر الثمانينيات وهنا لابد أن نسجل أن هذا السؤال الجوهري هو الذي طرحته الأحداث الجسام التي عاشتها بلدان الربيع العربي سنة 2011 .
ويواصل مانديلا نصيحته بوعي شديد باللحظة التاريخية العربية فيقول: “أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم.. لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير.. وهو سؤال قد تحُدّد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم لأن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم.. فالهدم فعل سهل لأن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل”
ويمضي مانديلا للقول: “أنا لا أتحدث العربية للأسف، لكن ما أفهمه من الترجمات التي تصلني عن تفاصيل الجدل السياسي اليومي في وسائل إعلامكم تشي بأن معظم الوقت هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع االأنظمة السابقة.. وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء .. كما يبدو لي أن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة”.
” أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة.. فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام وعلى مفاصل الأمن والدولة وعلاقات البلد مع الخارج.. فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة أهم هدف لهم في هذه المرحلة التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن.. إنها سياسة تجرع المر لكنها ناجحة”
هكذا أنهى الزعيم الراحل نصائحه الحكيمة للعرب.. لكن العرب يبدو أنهم لم يعملوا بها، بل أدهى و أمر، لم يقرأوها في دوامة فتنة السلطة!!
وهل بينهم رجل رشيد يتدارك المراكب العربية قبل الغرق ؟!
الدكتور أحمد القديدي
سياسي وأستاذ جامعي تونسي
سفير تونس السابق في قطر
ومستشار سابق لأمير قطر
@@@@@@@@@@@@@@@@@
مقالات الرأي تعبر عن آراء أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية