الدكتور عماد صابر يتساءل: بعد اوكرانيا..هل يترنح نظام القطب الدولي الواحد ؟! (1)
ثمة عديد من الأحداث والتطورات السياسية والاستراتيجية الكبرى التي أسهمت في تمكين النظام العالمى “أحادى القطبية” لقرابة عقدين من الزمن، كما توجد مجموعة من التطورات السياسية والأحداث الكبرى التي أدت إلى القول انه يكاد يترنح في الوقت الراهن.. فهل هو كذلك؟!
الأحداث والتطورات السياسية الكبرى مقصود بها تلك التي تنبثق عن حراك الشعوب وتدافع المشاريع الدولية، والحروب والآثار المترتبة على نتائجها من نصر أو هزيمة، وكذلك الثورات الشعبية، ودور النظم الاقليمية في الحراك الدولى .. وغيرها من الأحداث الكبرى التي تشبه الرياح المتحولة التي تؤثر في السياسات الخارجية والعلاقات الدولية، مما يضطر معها اللاعبون الرئيسيون في النظام العالمي للتفاعل وتغيير الاستراتيجيات.
ومن وجهة نظر البعض، وأنا منهم، يمكن تقسيم هذه التطورات السياسية والاستراتيجية والأحداث الكبرى التي أثرت تأثيرا بالغا على المعادلات في النظام العالمي فى الفترة الأخيرة إلى قسمين:
- مرحلة تمكين نظام (القطب الأمريكي الأوحد).
- ومرحلة ترنح نظام (القطب الأمريكي الأوحد).
“دعم وتمكين مرحلة النظام العالمى أحادي القطبية”
هذه المرحلة تمتد من عام 1991م إلى عام 2010 م، وقد افتتحها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، وعمقها ابنه جورج ورسخ خلالها المماراسات الاستراتيجية الأمريكية التي كانت تهدف إلى تحقيق نظام القطب الأوحد الأمريكي، ومن أبرز الأحداث الكبرى التي تراكمت في تلك المرحلة؛
أولا؛ سقوط وانهيار الاتحاد السوفيتي حيث كان من أبرز الأحداث السياسية والاستراتيجية التي تأسست عليها هذه المرحلة، فقد قادت مباشرة إلى محاولة أمريكا إلى طرح رؤيتها و عقيدتها الجديدة، التي تتمثل في قدرتها على القيادة المتفردة للعالم، دون أن تخضع لمعادلة مجلس الأمن وأعضائه الدائمين، وكان من أهم هذه الخطوات؛
- عملية إغراء صدام حسين بدخول الكويت، ثم التظاهر بالتصدي له وإطلاق ما أسمته وقتها ب”عملية تحرير الكويت”.
- فرضت أمريكا على العالم مفهوما جديدا عرف باسم “الحرب الاستباقية” والذي رسخه جورج بوش الابن بغزو أفغانستان 2001م والعراق 2003م.
- تنامي خطر انتشار الروح الجهادية في العالم الإسلامي بعد غزو افغانستان والعراق، وانعكاس الجهاد الإسلامي على مواقع كثيرة في العالم أهمها الساحة الفلسطينية والذي شهدت تحولا نحو الاتجاه الإسلامي الواضح عوضا عن الاتجاه اليساري والقومي الذي كان سائدا .. ونظرا لأن الجهاد والمقاومة الإسلامية في فلسطين يمس أخطر المشاريع الغربية في المنطقة وهو المشروع الصهيوني، فقد قامت أمريكا بتصنيع استراتيجية محاربة “الإرهاب” أو محاربة “التطرف”،التي ولدت في مؤتمر شرم الشيخ الدولي بدعوة من الولايات المتحده الأمريكية عام 1996م في سعيها المحموم لحماية المشروع الصهيوني في قلب الأمة.
ثانيا؛ كما شهدت هذه المرحلة عودة المشاريع الدولية إلى جذورها الدينية، واستدعاء الأصول الدينية، والذي تأسس على ضوئه الأحزاب المسيحية اليمينية في أوربا والأحزاب اليهودية اليمينية في إسرائيل، وتسابقها للوصول للحكم في مختلف دول العالم وخصوصا أمريكا ودول أوربا والهند وإسرائيل، ودول جنوب شرق آسيا التي شهدت صعود الروح البوذية.
ثالثا؛ كما قامت أمريكا في هذة المرحلة بتصنيع استراتيجية “العدو البديل” أو “العدو المحتمل” ليحل محل العدو القديم “الاتحاد السوفيتي”، فكان لهذه الاستراتيجية تأثير سياسي بالغ الأهمية على الأداء العالمي والعلاقات الدولية، إذ أصبح الإسلام هو “العدو البديل” ومصدر التهديد للحضارة الغربية، وتحديدا الروح الجهادية في الإسلام، وتصنيف كل من يدعوا للجهاد بالإرهاب، وظهر مصطلح “الإرهاب المحتمل” والذي يخول لأمريكا توزيع الاتهامات وملاحقة من تشاء.
رابعا؛ كما قامت أمريكا بصياغة مصطلح جيد وهو ” دول الشر” أو “الدول المارقة” ولاحقا عرف ب “محور الشر” والذي ضمت أمريكا فيه كوريا الشمالية وإيران والعراق ثم أضافت إليه سوريا لاحقا، مما جعل أمريكا تتلاعب بالنظام الدولي كيفما شاءت، وانشائها لتحالفات عبر العالم، وبث الوهم حول معارك خطيرة قادمة من قبل الإرهاب.
خامسا؛ التفوق الصهيوني في المنطقة، وقد تأسس هذا المشروع على ضمان الدعم الغربي والأمريكي له، فهو يمثل حجر الزاوية للهيمنة الغربية وعلامة على استمراريتها، ويتحكم المشروع الصهيوني في جميع معادلات الشرق الأوسط السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية،ويفرض رقابة مباشرة على شعوب المنطقة، ويتحكم في تعين حكامها، ويتدخل في كافة التطورات والحروب والعلاقات الدولية التي تخص المنطقة، حتى أصبح الكيان الصهيونى المرجعية الأولى في المنطقة .. وأصبح هناك تنسيق و تكامل بين المشروع الصهيوني وأجهزة الأمن العربي، وبات الكيان الصهيونى يتحكم في مخرجات و آليات إدارة الأزمات والتطورات في المنطقة وتغليب توجهه فيها، كثورات الربيع العربي، والحصار المائي الذي فرضته إثيوبيا على مصر والسودان، وتوسيع التطبيع الصهيوني على مستوي حكام المنطقة إلى غير ذلك.
سادسا؛ استثمار أمريكا في المشروع الصفوي الذي قام في عام 1979م، عبر إشعال الحرب العراقية الإيرانية، بهدف إشعال خامنئي حتى لا يتدخل في الحرب الأفغانية لصالح الاتحاد السوفيتي، وأيضا بهدف صناعة عدو جديد يهدد المنطقة وهو إيران للتغطية علي العدو الصهيوني، وكذلك كانت الحرب بهدف استنزاف المنطقة، لكي يسهل على المشروع الصهيوني والأمريكي التحكم فيها والعبث بمصائر شعوبها .. ثم كان الاستثمار الأمريكي للمشروع الصفوي الطائفي في إسقاط حكومة طالبان الأولى، وإسقاط حكم البعث في العراق.
“دور النظام العربي الوظيفي في دعم وإسناد المشروع الأمريكي والأوروبي والصهيونية”
في هذة المرحلة قامت أمريكا بإعادة تفعيل دور النظام العربي الوظيفي الذي أسسته بريطانيا وفرنسا في بدايات القرن العشرين ثم استلتمه أمريكا كى تضعه تحت إشرافها بالكامل، لا سيما المفصل الأمني والعسكري والذي يتحكم في باقي مفاصل النظام العربي، فارتفع بذلك معدل البطش والقمع الأمني لشعوب المنطقة تحت مبرر “مكافحة الإرهاب الإسلامي”، وترهيب وتخويف باقي التيارات الأخرى .. نفس الدور الوظيفى حصل فى إسناد ودعم أمريكا احتلالها لأفغانستان والعراق، وتجميل وجه هذا الاحتلال البغيض عبر أذرعها الإعلامية .. لكن أخطر الأدوار هو الدور المكمل للدور الأمريكي والأوربي والإيراني في احتواء وتوجيه المقاومة الإسلامية الفلسطينية، في الوقت الذي تتمدد فيه إسرائيل وتبتلع مزيدا من الأراضي الفلسطينية وضمها للكيان الصهيوني.
“احتواء المقاومة الإسلامية”
لقد ساهم النظام العربي الوظيفى فى احتواء المقاومة الاسلامية الفلسطينية عبر عدة مسارات، كان منها:
• مسار “المرجعية العربية للقضية الفلسطينية” ممثلا بمرجعية جامعة الدول العربية، ثم مرجعية مصر والسعودية كل على حدة أو مجتمعة.
• ثم مسار ما سمي ب”مبادرات السلام العربية”، التي قادتها السعودية في 1982م، و1991م، و 2002م فكانت هذه المبادرات الأساس الذي قامت عليه اتفاقية الإذعان ” أوسلو” وشكلت الأساس الذي دخلت فيه فصائل المقاومة الإسلامية الفلسطينية تحت مظلة “أوسلو” والسلطة والفلسطينية.
“الاسلام الأمريكى”
لعب النظام العربي الوظيفي دوره القذر في إسناد الاستراتيجية الأمريكية المتعلقة بإعادة إنتاج “الرؤية والتطبيق الإسلامي بين الشعوب”، عبر الدفع بنسخة الإسلام الأمريكي، أو ما سمي بالاسلام المعتدل بمقاس أمريكا ومراكز أبحاثها وأشهرها “معهد راند الأمريكي” والذي أوصى بالدفع بالمتصوفة الجاهلة كأحد وجوه الإسلام المقبولة أمريكيا، والدفع بنسخة سلفية مشوهة تدعوا إلى الخضوع للحكام العرب، وتحرم الجهاد والمقاومة، وشيطنة كل من يخرج عن المفهوم الأمريكي للإسلام .. وفي هذا السياق أنشأ النظام العربي الوظيفي مجموعة من مراكز الأبحاث المتخصصة في نشر وتسويق الإسلام بمواصفات أمريكية على مستوى المنطقة كلها ومنها: “المعهد الدولي للتسامح” بالامارات، و” مركز هداية لمكافحة التطرف العنيف” بالامارات، و”منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” بالامارات، و”مركز صواب” بالامارات، و”مركز اعتدال” بالسعودية، و “مرصد الأزهر” بمصر بتمويل الامارات، و”مركز تعزيز الوسطية” بالكويت.
لقد سيطر مفهوم الحرب على الإرهاب على تلك المرحلة ولمدة عشرين عاما من 1991م إلى 2010م إنه المنتج السحري الذي صنعته أمريكا واستخدمته لفرض نظام القطب الأوحد على العالم، وخصت به أمريكا الأمة الإسلامية وحدها بين بقية الأمم.
الخلاصة
في هذه المرحلة كانت الموازين الاستراتيجية في الصراع تميل بقوة لصالح المعسكر الغربي والأمريكي، فقد تمكن حلف الناتو من ابتلاع اغلب بلدان أوروبا الشرقية وإدخالها تحت مظلته وحلفه العسكري، وخسر الروس بذلك نطاق جيوسياسي واستراتيجي مهم كان قد كسبها في الحرب العالمية الثانية .. كما يأتي الصراع الاقتصادى وخصوصا فيما يتعلق بالصراع والتنافس على مصادر الطاقة، حقول البترول والغاز، إذ تعد موارد الطاقة وخطوط نقلها العامل الأساسي في المعادلات والاستراتيجيات التي نجحت الولايات المتحده الأمريكية في فرضها على العالم.
مرحلة القطب الأوحد الأمريكى من عام 1991م إلى عام 2010م شهدت مجموعة من الأحداث والتطورات السياسية والاستراتيجية الكبرى، كحراك الشعوب وتدافع المشاريع الدولية، والحروب .. وغيرها من الأحداث الكبرى التي كانت أشبه بالرياح المتحولة و التي أثرت في السياسات الخارجية والعلاقات الدولية، اضطرت معها الولايات المتحده الأمريكية للتفاعل معها وتغيير الاستراتيجيات التي مكنتها في نهاية المطاف لتقود العالم بشكل منفرد لم يسبق له مثيل غاب معه الديمقراطية في تعامل أمريكا مع باقي المنظومة الدولية،
أما مرحلة ترنح نظام (القطب الأمريكى الأوحد من 2011م وإلى الآن، فهو ماسوف نتناوله فى المقال القادم(2) بمشيئة الله تعالى.
د. محمد عماد صابر
سياسي وبرلماني مصري
من نواب برلمان الثورة 2012
*********************************************************************
الآراء الواردة فى المقال تعبر عن صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن موقع الشادوف أو تمثل سياساته التحريرية