بروفيسور أحمد القديدي يكتب لـ(الشادوف) عن: أسباب ظهور داعش في كتاب فرنسي !
كنت في باريس الشهر الماضي و نحن نودع عامي 2020 و 2021 الذين شهدا حدوث ثلاث عمليات إرهابية في ثلاث قارات هي أوروبا وإفريقيا والخليج.. ثلاث عمليات اختلف منفذوها واختلفت أصنافها لكنها صدمت الرأي العام هنا وهناك بدرجة من العنف غير المسبوق وعدد الضحايا الأبرياء والرجة النفسية التي أحدثتها ثم التحليلات التي أعقبتها وتداخل فيها الأيديولوجي بالأكاديمي.
ولا يسع المواطن العادي سوى الوقوف إجلالا أمام مأساة الضحايا وتقديم التعازي لذويهم ولكنني رغم فداحة الخسارة التونسية بعد مقتل السياح في فندق حيث نكبت مليون أسرة تونسية في مورد رزقها وهي العائلات التي لها ارتباط مباشر أو غير مباشر بهذا القطاع الحيوي لبلاد لا تزال هشة المؤسسات هزيلة الموارد.
رغم هذا الخطب الجلل فإني أميل إلى التحليل العلمي التاريخي الرصين الناجع لأنه وحده ينير الطريق لمقاومة هذه الظاهرة العنيفة الطارئة خارج الحسابات السياسية الضيقة والمعالجات الحزبية الأنانية والتي تبارى فيها البعض بإصدار البيانات والتعليق المتشنج على بلاتوهات الفضائيات التي تكيل التهم لبعضها البعض وكأني بها تتاجر بدماء الضحايا والعياذ بالله.
فالذي وقع مرتبط بشبح داعش مبدئيا ولكن الأبحاث الجنائية والقضائية ما تزال في بدايتها ولا يمكن الجزم بهذا السيناريو أو ذاك إلا بعد التأكد بالحجة من مصدر العمليات وغايات محركيها وانتماءات منفذيها.. ولهذا السبب سعدت عند حلولي بباريس بصدور كتاب جديد هذه الأيام للزميل المؤرخ الفرنسي (بيار جون لويزار) يحمل عنوان (داعش. الدولة الإسلامية وعودة التاريخ).
والمؤلف يعتبر راصدا أمينا لتحليل كل ما يطرأ على العالم الإسلامي من تطورات وما يعتريه من أزمات وما ينتظره من مصير فالزميل لويزار أستاذ مبرز في الحضارة الإسلامية ومتخصص في شؤون العراق وسوريا صدرت له منذ 1990 الى 2021 مجموعة من الأعمال حول العلاقات العسيرة بين الإسلام والغرب وقضايا الاستعمار الجديد والمجتمعات المدنية في الدول الإسلامية ومكانة العلمانية في الإسلام المعاصر، وهو ما جعل كتبه الثمانية تشكل كنزا ثمينا من التحليلات الراقية والحجج الموثقة بوأت الأستاذ لويزار منزلة أكاديمية راقية ليحتل منصب مدير الدراسات الإسلامية صلب المركز الوطني للبحوث الاجتماعية أعلى مؤسسات البحث العلمي في العلوم الإنسانية في باريس.
وهذا الكتاب ينأى بالمؤرخ عن التفاسير الجاهزة السهلة والتبريرات الأيديولوجية المكررة ليحفر في ذاكرة التاريخ عن جذور ظاهرة داعش وأسباب انتشارها السريع ويقدم للقارئ مادة تاريخية ثرية تجعله يفهم تسلسل التاريخ الحديث بكل حلقاته المتعاقبة كما يعدد أخطاء المسلمين وأخطاء المستعمرين الذين أسسوا للكوارث منذ مطلع القرن العشرين ومهدوا لفوضى الشرق الراهنة بانحيازهم لمصالحهم الضيقة.
كما ينظر المؤلف نظرة النقد لسوء التقدير الأمريكي والغربي عموما في التعامل مع الهزات العنيفة التي زلزلت الشرق الأوسط منذ عقود قليلة وكل هذه الحلقات المتتالية والمنطقية هي التي أوصلت العالم الإسلامي إلى حالته الراهنة من تفكك الدولة القومية وانهيار الأيديولوجيات المستوردة وتشديد الخناق على مصير المسلمين حتى يخضع المشرق العربي لسطوة رأس المال المتغول في الغرب والذي تقوده حكومة الظل المالية المنتصبة في مانهاتن.
وما كان العالم الإسلامي ليبلغ تلك الدرجة من الخضوع لشروط الغرب اليميني النهم لولا انتشار الاستبداد وغياب المشاركة الشعبية وفقدان الشفافية في إدارة ملفات الحكم.
إن الواقع العربي والإسلامي متشعب وعصي على الجمهور العريض حل طلاسمه بسبب انحدار بعض وسائل الاتصال والإعلام لدينا إلى أسفل سافلين وهي التي تفننت في التلاعب بالعقول وفي تطويع الناس نفسيا لتقبل الهزيمة، إلا أن هذا العالم الفرنسي الموضوعي استطاع أن يفك ألغاز الظاهرة الداعشية حين قرأ مجريات الأحدث الاستعمارية والعلاقات بين الإسلام والغرب في محطتها الأساسية المتمثلة في معاهدة (سايكس بيكو) التي وقعها وزيرا خارجية الامبراطورية الفرنسية والامبراطورية البريطانية يوم 16 مارس سنة 1916 لتقاسم ما سماه سياسيوهم آنذاك بـ (تركة الرجل المريض المحتضر) فتسلح الوزيران المنتصران في الحرب العالمية الأولى بقلم ومسطرة ورسما حدود خارطة جديدة للشرق الأوسط تعود فيها العراق (بلاد ما بين النهرين) لبريطانيا ويعود الشام (بمافيه سوريا ولبنان وفلسطين وضفتا نهر الأردن) لفرنسا.
ولم يكن هذا التقسيم العشوائي سوى لي عنق التاريخ لإخضاعه للجغرافيا الاستعمارية و(الدولة القومية) هي فكرة دخيلة لم يعرفها المسلمون بتاتا.. المعضلة أن الفكرة لم تولد من رحم الأمة الإسلامية بل نصبها الاستعمار البريطاني أول مرة سنة 1920 في العراق بدعوى إنشاء دولة عراقية قومية! بينما العراق كان ولاية تابعة للسلطان العثماني وكانت الانتماءات تعاش وتمارس لكل طوائفه وعشائره وأديانه باعتبار رؤساء تلك الطوائف والعشائر وأئمة الأديان هم المراجع والشيوخ بلا حدود قومية ولا ولاءات لجنسية بل كما يقول المؤرخ النفسي فإن مصطلح (الجنسية) ذاته لم يكن معروفا البتة إلى مطلع القرن العشرين.
ولم تكن للعراقيين وثائق هوية، والدليل أننا نجد اليوم أغلب العراقيين يرجعون بأصولهم العرقية إلى قبائل حجازية معروفة أولها قبيلة شمر وتميم.. فكان زرع فكرة الدولة القومية عملا يخدم مصالح الإنجليز لا غير، لكنه يشوه البنى الاجتماعية للعراق التقليدي ويبذر الفتنة الطائفية لأن كل طائفة أرادت بالطبع حماية مصالحها بفضل التمكن من مقاليد الحكم والتحكم في صلب تلك الدولة القومية الناشئة وهو ما وقع أيضا في لبنان وسوريا وبشكل مختلف في ليبيا واليمن.
إن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج حسب تحليل لويزار..لاحظوا أن نفس الغرب الصليبي المستعمر أراد اليوم تكرار نفس الأخطاء التي ارتكبها في لبنان في الأربعينيات فأعادها في العراق، ففي لبنان بعد فصله عن الشام الكبير، قررت باريس الاستعمارية في الأربعينيات إنشاء دولة بتقسيم مراكز السلطة بين الطوائف، فنص الدستور على أن رئيس الجمهورية ماروني ورئيس الحكومة سني ورئيس البرلمان شيعي!!
وفي الدستور العراقي لسنة 2005 قرر الاحتلال الأمريكي أن يكون رئيس الجمهورية كرديا ويكون رئيس الحكومة شيعيا ويكون رئيس البرلمان سنيا! نفس التعاطي العشوائي المرتجل (يؤكد المؤرخ) مع تقسيم المشرق العربي إلى دويلات طائفية أو مؤسسات شبه فيدرالية منقولة عن المثال السويسري أو البلجيكي ولكن هيهات أن تستوي دول ملفقة مرتجلة لا يستقيم لها أمن ولا اقتصاد ولا مؤسسات!!
الغاية الامبريالية الجديدة-القديمة هي تفكيك المفكك وتشتيت المشتت..لكن هنا لابد من قراءة ظهور وانتشار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش ) من خلال هذه الحقائق.. ومن هنا جاء عنوان الكتاب وهو (عودة التاريخ) إلى ما كانت عليه الأوضاع الجغرافية والتاريخية ما قبل سايكس بيكو وما قبل احتلال العراق في أبريل من العام 2003، ولم يكن هذا الحنين للماضي أو للسلف ممكنا لولا إفلاس كل الأيديولوجيات المستوردة من قومية واشتراكية وعلمانية وأصولية ولولا دخول العالم المشرقي في مرحلة مطبات وتيه وفقدان بوصلة نسأل الله تعالى أن يعجل بإنقاذنا منه ويهدينا إلى سواء السبيل.
الدكتور أحمد القديدي
سياسي وأستاذ جامعي تونسي
سفير تونس السابق في قطر
ومستشار سابق لأمير قطر
@@@@@@@@@@@@@@@@@
مقالات الرأي تعبر عن آراء أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية