د. عمرو حمزاوي يكتب: مصر وحكاية السد الآخر

0 663

دون مقدمات لا تحتملها مسألة وجودية كالأمن المائي لمصر المحروسة، سأشتبك مباشرة مع النقاش الدائر اليوم حول سد النهضة والخيارات المتاحة أمام صناع القرار في القاهرة.
أولا، لست من الذين يرون أن توقيع مصر على إعلان المبادئ بشأن سد النهضة الإثيوبي 2015 كان خطوة خاطئة يتعين إلغاؤها. كان التوقيع على إعلان المبادئ، من جهة، ترجمة لدبلوماسية تستهدف بناء الثقة مع إثيوبيا التي دأبت حكوماتها المتعاقبة على الشكوى مما تراه سياسة أحادية للقاهرة لا تكترث سوى بالحفاظ على الموارد المائية المصرية دون انتقاص وترفض التعاطي بجدية مع رغبة أديس أبابا في توظيف مياه النيل لأغراض تنموية عبر إقامة السدود. دلل التوقيع على إعلان المبادئ على حسن نية الحكومة المصرية تجاه إثيوبيا التي كانت آنذاك قد بدأت في بناء سد النهضة على النيل الأزرق (ومنه يأتي أكثر من 85٪ من موارد المحروسة المائية) وانفتاحها على التفاوض معها وصولا إلى وضع عادل في حوض النيل يحمي حقوق دول المصب، السودان ومصر، ويضمن لدولة المنبع، إثيوبيا، حقوقها التنموية.
ومن جهة أخرى، كان التوقيع المصري على إعلان المبادئ ترجمة للالتزام بقواعد القانون الدولي المنظمة للاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية. تضمن الإعلان مبادئ عشرة تمثلت في إقرار الدول الأطراف لضرورة التعاون الإقليمي فيما بينها، وامتناع كل منها عن التسبب في «ضرر ذي شأن» للآخرين، والتزامها بالاستخدام المنصف لمياه النيل، ووجوب التعاون فيما خص ملء سد النهضة وإدارته وتبادل المعلومات والبيانات بشأنه، والاعتراف بالسيادة المتساوية على الموارد المائية لنهر النيل من جانب دولة المنبع ودول المصب، واعتماد أدوات التسوية السلمية للنزاعات تفاوضا وتوفيقا ووساطة. ذات المبادئ العشرة هذه هي التي تنص عليها الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمجاري المائية العابرة للحدود، وأهمها اتفاقية هلسنكي للمياه التي أقرت كمبادرة أوروبية في 1992 وتحولت إلى اتفاقية دولية ودخلت في 2013 حيز التنفيذ بعد تصديق دول غير أوروبية عليها واتفاقية نيويورك للاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة.
تحظر اتفاقية هلسنكي واتفاقية نيويورك على الدول المشاركة في المجاري المائية الدولية ممارسة السيطرة الأحادية على المياه، وتلزمها إن في المنبع أو في المصب بالاستخدام المنصف للمياه وبالامتناع عن الإضرار بالغير، وتشجعها على التعاون فيما بينها لإدارة المجاري الدولية بهدف «التوزيع العادل» للمياه وضمان جودتها البيئية ومكافحة تلوثها والبناء الآمن للسدود لإنتاج الطاقة وللأغراض التنموية الأخرى. ثم تستند الاتفاقيتان إلى كل ذلك للنص على قاعدة «السيادة المتساوية» للدول دون تمييز بين دول منبع ودول مصب، وهي القاعدة القانونية الأهم لجهة الحيلولة دون تعامل دول منابع الأنهار مع المياه كملكية خاصة تتحكم بها منحا ومنعا دون اعتبار لحقوق ومصالح الدول الأخرى المشاركة في الأنهار، خاصة دول المصب الأكثر احتياجا لالتزام دول المنابع بالاستخدام المنصف والتوزيع العادل للمياه.
لم يكن التوقيع المصري على إعلان المبادئ بشأن سد النهضة، إذا، سوى إقرار لقواعد القانون الدولي المعمول بها وتفعيلها كإطار ناظم للتفاوض مع طرف إثيوبي كثيرا ما تعنت مدعيا «سيادته المطلقة» على مياه النيل كدولة المنبع ومهددا حقوق ومصالح الآخرين. ألزم مبدأ «السيادة المتساوية» الذي نص عليه إعلان المبادئ في مادته التاسعة الحكومات الإثيوبية (وهي دوما ما رفضت التوقيع على الاتفاقيات الإقليمية والدولية الخاصة بالمجاري المائية) الابتعاد عن وهم السيادة المطلقة بالغ الخطورة على الحقوق المصرية، وأحل التعاون بديلا للانفرادية كنهج للتعامل مع أمور نهر النيل العظيم وسبل التفاوض والتوفيق والوساطة بديلا لصراعات المصالح حول بناء وتشغيل سد النهضة الذي كان قد صار في2015 حقيقة واقعة يستحيل تجاوزها.
في التحليل الأخير، شد إعلان المبادئ من ساعد المفاوض المصري الذي بات في استطاعته في الجولات الثلاثية (بمشاركة السودان) ومتعددة الأطراف (بمشاركة الاتحاد الإفريقي وأحيانا بمشاركة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمؤسسات الدولية) الارتكاز إلى السيادة المتساوية ومبادئ الاستخدام المنصف وعدم الإضرار بالغير للضغط على إثيوبيا ومقاومة إجراءاتها الانفرادية ومطالبتها بتنفيذ ما أقر في الإعلان وإقامة الحجة عليها حين شكتها مصر إلى الجهات الإقليمية والدولية بسبب تعنتها المتكرر (ذهبت الحكومة المصرية بملف سد النهضة إلى مجلس الأمن الدولي في صيف 2020). لكل ما سبق، أرفض الحديث الرائج الآن في المحروسة عن حتمية إلغاء التوقيع المصري والانسحاب من إعلان المبادئ كرد فعل على التعنت الإثيوبي وامتناعها عن ضمان حقوقنا ومصالحنا المائية وسد النهضة يقترب من الملء الثاني.

لم يلحق إعلان المبادئ بمصر ضررا قانونيا ولم يلغ حصة مصر التاريخية من مياه النيل، بل أظهر حسن نيتنا والتزامنا بالحلول السلمية والتفاوضية ورغبتنا في التعاون مع إثيوبيا لما فيه صالحها وصالحنا ومكننا إقليميا ودوليا من توضيح واقع تعنت وتحايل ومماطلة الحكومات الإثيوبية. أقام الإعلان أيضا إطارا ملائما للمفاوضات الثلاثية ومتعددة الأطراف ولم يحل دون توجه مصر إلى الأمم المتحدة (مجلس الأمن) لشكوى إثيوبيا (وهو التوجه الذي ساندته في هذه المساحة بمقالة عنونت «هل تنقمون على مصر الدفاع عن حياة شعبها وأمنها؟» ونشرت في يونيو/حزيران 2020) ولا يحول دون ذلك لا حاضرا ولا مستقبلا.
ثانيا، لست من الذين يرون أن قرع طبول الحرب في مصر باتجاه إثيوبيا يخدم المصلحة الوطنية أو يقارب بيننا وبين صون حقوقنا في نهر النيل وأمننا المائي. جيد أن ترفع الحكومة، وكذلك المعارضة، من سقف خطابها بشأن سد النهضة ملوحة بكون «كافة الخيارات مطروحة» وموظفة مقولات «كالإجراءات المصرية الجسيمة» للرد على الانفرادية الإثيوبية. جيد أيضا أن يتواصل التنسيق الدبلوماسي والسياسي والعسكري المصري مع السودان، دولة المصب الأخرى، وأن تطرح الخرطوم والقاهرة إزاء تعثر المفاوضات مع إثيوبيا كاستراتيجية إضافية الذهاب إلى مجلس الأمن قبل الملء الثاني لسد النهضة لما يحمله ذلك، مع غياب التوافق بشأن قواعد الملء وجداوله الزمنية، من أخطار للسلم والأمن في حوض نهر النيل ومن ثم لما يمثله من تهديد للسلم والأمن الدوليين.
جيد هذا وذاك، غير أن كليهما لا ينزعان أبدا عن الحلول السلمية والتفاوضية كونها الحلول الأفضل لمصالح الأطراف الثلاثة والأوفر أمانا والأقل كلفة والأكثر قبولا إقليميا ودوليا. فمن جهة، وعلى الرغم من التعثر شبه الكامل للمفاوضات الثلاثية ومتعددة الأطراف، وإثيوبيا راهنا لا تقبل بالأخيرة سوى في حدود وساطة الاتحاد الإفريقي، لم تستنفذ المسارات التفاوضية كل فرصها. نعم ثمة ضغط وقتي بالغ يرتبط بالملء الثاني لسد النهضة في الصيف القادم، إلا أن إمكانية العودة إلى المفاوضات بوساطة الاتحاد الإفريقي والضغط على الحكومة الإثيوبية لقبول مشاركة أطراف دولية كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين وروسيا، وجميع هذه الأطراف تربطها علاقات تعاون مع مصر والسودان وإثيوبيا وظلت قريبة من ملف سد النهضة طوال السنوات الماضية، لم تزل قائمة. من جهة أخرى، تفرض حقائق الجغرافيا والتاريخ التي صاغها مجرى نهر النيل العظيم، شريان حياتنا جميعا، على كافة الدول الأطراف تقديم التعاون الإقليمي والتسوية السلمية للنزاعات على الأدوات غير السلمية التي لا توفر لهذا الطرف أو ذاك سوى لحظات مراوغة وغير دائمة من التفوق يظل مآلها هو الانقضاء السريع مثلما يظل مآل النزاعات هو الاستمرار ما لم تحل سلميا على أساس قواعد العدل والإنصاف والمصالح المشتركة. من جهة أخيرة، لا يستسيغ عالمنا المعاصر، لا في محيطنا الإقليمي ولا دوليا، قرع طبول الحرب حين تتعثر المفاوضات بشأن مسألة صعبة كالحقوق العادلة لدول حوض النيل وفيما خص ملف شائك كسد النهضة. فطبائع الأمور تخبرنا أن التفاوض حول تلك المسائل والملفات مرشح دوما للتعثر كما لتقلبات الاقتراب من والابتعاد عن مائدة المفاوضات وحضور وغياب الوسطاء الإقليميين والدوليين، وتخبرنا أيضا أن جولات التفاوض ليس لها إلا أن تجري بوتائر زمنية بطيئة. يدرك محيطنا الإقليمي والدولي ذلك، ولا يستسيغ قرع طبول الحرب كبديل للتفاوض مع إثيوبيا مثلما لا يستسيغ انفرادية الحكومات الإثيوبية المتعاقبة.
أسجل، مرة أخرى، أن رفع سقف الخطاب المصري بالتلويح بالخيارات المتاحة والإجراءات الجسيمة والذهاب المشترك مع السودان مجددا إلى مجلس الأمن الدولي هو استجابة مناسبة للتعنت والمماطلة الإثيوبية ويعطي للمفاوض المصري مساحات إضافية للضغط والتصعيد والتوريط الإيجابي للأطراف الإقليمية والدولية مع اقتراب موعد الملء الثاني لسد النهضة وغياب التوافق حول الشروط والتوقيتات. على الرغم من ذلك، يظل السبيل الوحيد لضمان الحقوق المصرية في مياه النيل وضمان أمننا المائي يظل هو مواصلة الالتزام بالحلول السلمية وبالتفاوض كأداتنا الأساسية واستدعاء كل الوسطاء الممكنين للمساعدة. بل أن الخطاب المصري، الحكومي والمعارض، ينبغي أن يظل ملتزما بطابعه السلمي والتفاوضي لكيلا نخسر التعاطف الإقليمي والدولي مع موقفنا وسياستنا. فقد أظهرت مصر خلال السنوات الماضية، خاصة بعد توقيعها على إعلان المبادئ، في 2015، حسن نيتها تجاه إثيوبيا وأهدافها التنموية الكامنة وراء بناء السد وتفاوضت معها دون انقطاع طلبا لضمان المصالح المصرية المشروعة وحين تعترض اليوم على اقتراب الملء الثاني دون توافق لما يمثله من خطر بالغ على أمنها المائي فهذا حقها وعلى الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة الانتقال من خانة استساغة التعنت الإثيوبي إلى خانة رفضه والضغط على الحكومة الإثيوبية للتوصل إلى حلول توافقية مع مصر ومع السودان كدولة المصب الأخرى قبل الملء الثاني. تلك هي المضامين والمفردات التي يتعين علينا مخاطبة إقليمنا وعالمنا استنادا إليها، وليس القرع غير المسؤول لطبول حرب ليس لها سوى أن تودي بالتعاطف مع قضيتنا العادلة ونحن اليوم في أمس احتياج إليه.
لمصر حق وجودي في مياه النيل تهدده اليوم الانفرادية الإثيوبية في إدارة ملف بناء وتشغيل سد النهضة الذي صار حقيقة واقعة لا إلغاء لها. لمصر قضية عادلة جوهرها رفض ادعاء إثيوبيا سيادتها المطلقة على النيل (النيل الأزرق) وعدم التزامها بقواعد الاستخدام المنصف وعدم الإضرار بحقوق الغير إن هي قامت بالملء الثاني للسد دون توافق مع دول المصب. لمصر سياسة متوازنة وسلمية أساسها التفاوض وصولا إلى ضمان الأمن المائي لشعبها ومصالحه المشروعة في مياه النيل. لمصر حق على مواطنيها جميعا، دون تمييز بين مؤيد للحكومة ومعارض سلمي لها، يتمثل في شد أذر المفاوض المصري والعمل معه على حشد التأييد الإقليمي والدولي، حكومي وشعبي، لقضيتنا العادلة. عن نفسي، لن أتأخر أبدا.

 

الدكتور عمرو حمزاوي

أستاذ السياسة العامة بالجامعة الأمريكية في القاهرة
وعضو سابق بمجلس الشعب المصري عن انتخابات 2012

@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها حصرا، ولا تعبر عن موقع (الشادوف) أو سياساته التحريرية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.