دولة مبارك ومياه النيل .. شهادة أبو الغيط

0 367

هاجم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ثورة يناير 2011، وحمّلها مسؤولية بناء سد النهضة الإثيوبي، قائلا “لمّا البلد كشفت ظهرها وعرّت كتفها، فأي حاجة تتعمل بقى”. وهو ما يعطي انطباعا بأن مشكلة مصر مع دول حوض النيل، وفي مقدمتها إثيوبيا، بدأت في 2011، وأن مؤسسات الدولة المصرية التي حكمت مصر في تلك المرحلة، وفي مقدمتها الجيش ومؤسسات البيروقراطية المصرية، فعلت ما في وسعها للدفاع عن حقوق مصر في مياه النيل قبل يناير/كانون الثاني 2011، وأن تلك المؤسسات امتلكت استراتيجية متماسكة للدفاع عن مياه النيل وحقوق مصر التاريخية فيها.

وهنا تأتي أهمية مذكرات وزير الخارجية المصري السابق، أحمد أبو الغيط، المنشورة في عام 2013، بعنوان “شهادتي”، بحكم أنه آخر وزير خارجية لمصر في عهد مبارك (2004 – 2011)، وكان شاهدا على علاقة مصر بدول حوض النيل قبل الثورة، كما لم يُعرف عنه معارضة نظام مبارك، بل كان أحد شخصياته الرئيسية. وهو ما يجعل شهادته، والتي يُفرد لها فصلا كاملا من كتابه، بعيدةً عن تهمة التحيز ضد نظام مبارك والتحامل عليه.

يتحدّث أبو الغيط باستفاضة، في الفصل السادس من مذكراته، عن دوره في مفاوضات مبادرة حوض النيل، والتي بدأت في 1999 وانتهت في مايو/أيار 2010، أو قبل ثورة يناير بثمانية شهور، بتوقيع خمس من دول حوض النيل اتفاقية إطارية للتعاون المشترك، على الرغم من رفض مصر والسودان لها، لكونها لم تتضمّن الاعتراف بالاتفاقيات السابقة التي تضمن حقوق مصر التاريخية في ماء النيل، ونتحدّث هنا عن اتفاقيتي 1929 و1959. كما أنها لم تتضمّن حق مصر في الاعتراض على أي مشاريع تقام على النيل، قد تؤثر على حصتها التاريخية. ويمكن النظر إلى هذه الاتفاقية باعتبارها بداية لتكتل دول حوض النيل ضد مصر والسودان وحقوقهما التاريخية، ورفضهم الاعتراف بتلك الحقوق.

يذكر أبو الغيط أن البنك الدولي هو من أطلق مبادرة حوض النيل في 1999، وأن مصر أخطأت بالدخول في المبادرة لأكثر من سبب، كعدم احتواء المبادرة، من البداية، شروطا مسبقة، تضمن الحفاظ على حقوق مصر التاريخية، ولأنها أخرجت إطار التعاون بين مصر ودول حوض النيل من الإطار الثنائي، حيث تتمكّن مصر من ممارسة نفوذها على كل دولة من دول حوض النيل على حدة، إلى الإطار الجماعي، حيث استطاعت دول حوض النيل التكتل ضد مصر والسودان وتدويل القضية، وهو ما أضعف قدرة مصر على التأثير. وهنا يشير أبو الغيط إلى أن تدويل مياه النيل، كما حدث في مبادرة حوض النيل، ويحدُث حاليا مع سد النهضة، علامة على ضعف قدرة مصر على حل قضاياها وتأخر ردة فعلها، لأنه كان على مصر منذ عقود تأمين مياه النيل من خلال اتفاقات ثنائية ومصالح مشتركة قوية مع مختلف دول حوض النيل. أما المبادرة التي تمت تحت أعين نظام مبارك، واستمرّت مفاوضاتها عقدا، فكانت علامة على الوهن الذي أصاب مصر والنظام، وعجزهما عن الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية.

وحسب أبو الغيط، كانت أسباب هذا الضعف متعدّدة، حيث أهملت مصر القارّة الأفريقية خلال عهد مبارك، خصوصا منذ عام 1995 حين تعرّض مبارك لمحاولة اغتيال في إثيوبيا وقرّر بعدها، أو قرّر المحيطون به، عدم زيارة أفريقيا مجدّدا. ويقول أبو الغيط إن الحال استمر حتى توليه وزارة الخارجية المصرية في 2004، وأنه بذل جهدا كبيرا لإقناع مبارك بالعودة إلى زيارة أفريقيا، وتقوية العلاقات مع رؤسائها، ونجح، في النهاية، في تشجيعه على تأدية زيارات محدودة وقصيرة إلى بعض الدول الأفريقية، وكيف أنه أقنع مبارك بزيارة أوغندا ساعات في طريق عودته من جنوب أفريقيا في يوليو/تموز 2008، وهي الزيارة الوحيدة التي قام بها مبارك إلى واحدة من دول حوض النيل منذ 1995 وحتى خروجه من السلطة، وكيف أن “أجهزة الأمن المصرية كانت تقاوم فكرة زيارة الرئيس إلى أوغندا، وأن طائرته سوف تكون معرّضة للنيران من الأحراش والمستنقعات الواقعة في طريق الاقتراب من ممر الهبوط بمطار عنتيبي”.

ولم يكن هذا الهلع والخوف المبالغ فيه على حياة الرئيس المصري السابق السبب الوحيد لضعف قدرته على لعب دور أساسي في حماية مصالح مصر في ماء النيل وقيادة دبلوماسيتها، حيث يكشف أبو الغيط أنه كان يخشى من إشراك مبارك في مفاوضات جماعية مباشرة مع قادة دول حوض النيل، على الرغم من الحاجة الشديدة لذلك، وذلك لمخاوف أبو الغيط من سن مبارك وطريقة تفكيره، والخوف من عدم قدرته على الإلمام بالتفاصيل الفنية والقانونية، وهو ما حرم مصر من ممارسة نفوذها كاملا. وهنا يذكر أبو الغيط أن اللجان الفنية عجزت، منذ عام 2006، عن الدخول في حلول توافقية، ما أدّى إلى رفع القضية إلى المسؤولين السياسيين، وفي مقدمتهم وزراء الموارد المائية، ووزراء الخارجية، والرؤساء أنفسهم. وبدلا من أن يقود الرئيس المصري المفاوضات الجماعية، يقول أبو الغيط إنه فضل الاستعانة برئيس الوزراء المصري، موضحا: “بكل أمانة المسؤولية، كنت أخشى أن الرئيس المصري لن يستطيع السيطرة على تفاصيل فنية أو قانونية كثيرة، خاصة إذا ما كان بمفرده مع بقية الرؤساء في اجتماعات مغلقة، وهي إحدى صفات العمل الجماعي، كانت شخصية مبارك وتكوينه يبعدانه عن الدخول في تفاصيل معقدة”. وهكذا تورّطت مصر في مفاوضات حول قضية حيوية واستراتيجية عشر سنوات، قضية تُركت لخبراء فنيين ووزراء الموارد المائية والخارجية والمؤسسات الأمنية، ولم يلعب فيها الرئيس المصري دوره المفترض، بسبب تقدّمه في العمر وعدم إلمامه بالتفاصيل. ويضيف أبو الغيط إن مؤسسات الدولة المصرية نفسها لم تلعب دورها المأمول. على سبيل المثال، صدم أبو الغيط بإقالة وزير الموارد المائية، محمود أبو زيد، في مارس/ آذار 2009، ومصر في خضم المفاوضات بسبب “خلافاتٍ مع رئيس الحكومة وبعض الوزراء”. ويقول إن رئيس المخابرات العامة السابق، عمر سليمان، شاركه الصدمة نفسها، وذلك لأن أبو زيد الذي تولى منصبه في 1997 كان ملماً بكل تفاصيل المفاوضات ومواقف نظرائه الأفارقة. ومع ذلك، تمت إقالته ومصر في توقيت حساس، ومن دون مراعاة مصالح الدولة المصرية. وهنا يتساءل أبو الغيط: “كيف نقوم بتغيير المفاوض المصري الرئيسي، وفي قضية هامة وحيوية لنا، بهذا الشكل، وفي خضم معركة تفاوضية، يعلم هو بكل خباياها وتفاصيلها؟ وأحسست وقتها أن هذا التصرّف يعكس عدم فهم دقيق للأوضاع التفاوضية، كما أنه سيؤدّي إلى إضعاف القدرة التفاوضية المصرية”.

يقول أبو الغيط أيضا إنه حاول تشجيع التجارة مع الدول الأفريقية، حيث كانت تلك الدول، وفي مقدمتها إثيوبيا، تؤكّد دوما على استعدادها توفير احتياجات مصر من اللحوم والثروة الحيوانية، كما عرضت تنزانيا توفير مناطق شاسعة، لكي تستخدمها مصر في تنمية الثروة الحيوانية، ولكن “قاومت دوائر في مصر هذه التوجهات للانفتاح على أفريقيا في مجال استيراد اللحوم.. وأخذت مافيا استيراد اللحوم بمصر تقاوم لمصالح تحكمها”. كما أنه سعى إلى تشجيع الشركات المصرية على الاستثمار في دول أفريقيا، ولكن “الكثير من هذه الشركات لم يقم بالدور المطلوب منها للانتشار في- واختراق- الأسواق الأفريقية، رغم كل التشجيع”، حتى السفراء والدبلوماسيين المصريين أنفسهم لم يعطوا دول حوض النيل الاهتمام الكافي. وهنا يقول أبو الغيط “كان الكثيرون من دبلوماسيينا يتحدّثون عن أهمية القارة الأفريقية، وإعطائها أولوية في تحرّكاتنا الدبلوماسية، ولكن وعندما يحين موعد النقل السنوي إلى البعثات.. كان المقاومة والرفض تظهر في الكثير من المواقف”. كما لم تتعدّ المساعدات المصرية إلى دول القارّة 10 ملايين دولار سنويا في عام 2004. ويقول أبو الغيط إنه نجح في زيادتها إلى 23 مليون دولار سنويا في نهاية عهده في 2011، على أن تخصّص 40% منها لدول حوض النيل، وهي مبالغ محدودة للغاية. كما يقول إن مصر أيضا سعت لدى الدول المانحة والمستثمرة لكي لا تستثمر في مشاريع قد تؤثر على حصة مصر في مياه النيل، من دون التنسيق المسبق مع الحكومة المصرية.

وبهذا تعطي شهادة أبو الغيط صورة مختلفة كثيرا عن الصورة التي تحدّث عنها عبد الفتاح السيسي في خطابه، فمؤسسات الدولة المصرية، وفي مقدمتها الجيش، والتي ينتمي إليها السيسي، ويدّعى الحفاظ عليها، كانت شاهدا أساسيا على عقود حكم مبارك، وبداية التفريط في مياه النيل، حيث يتناول أبو الغيط بالتفصيل كيف أدار نظام مبارك مفاوضات مبادرة حوض النيل بدرجة كبيرة من الضعف والوهن وغياب الاستراتيجية، فالرئيس غائب أو مغيّب، لا يحضر مفاوضات ولا يعي التفاصيل، ومؤسّسات الدولة مشغولة بالصراع مع بعضها، وتتم إقالة وزير الموارد المائية (مفاوض مصر الرئيسي) في خضم المفاوضات. وشبكات المصالح الاقتصادية المحيطة بالنظام والمرتبطة به لا تقوم بدورها، ولا تبالي بالاستثمار في الدول الأفريقية، حتى كبار موظفي الدولة أنفسهم، كالدبلوماسيين المصريين، يكتفون بالحديث عن مصالح مصر في أفريقيا، ثم يتهرّبون من مسؤولية الإقامة في أفريقيا ورعاية تلك المصالح.

ولعل تلك الشهادة تطرح أسئلة كثيرة بخصوص استراتيجية نظام السيسي نفسه، فلماذا وقّع على اتفاقية إعلان المبادئ الخاصة بسد النهضة في 2015، من دون شروط مسبقة، تحفظ حقوق مصر؟ وهل اللجوء المتزايد إلى تدويل القضية يصبّ في صالح مصر أو يبرز ضعفها؟ وماذا عن الاستثمارات الدولية في إثيوبيا ومشاريعها؟ ولماذا لا تمارس مصر ضغوطا على الدول الممولة، لمطالبتها بالضغط على إثيوبيا لمراعاة مصالح مصر التاريخية في مياه النيل؟ وأين كانت مؤسسات الدولة التي ينتمي لها السيسي، وحقوق مصر يتم التفريط فيها بهذا الشكل منذ عام 1999 على أقل تقدير؟

 

علاء بيومي

كاتب صحافي مصري

نقلا عن صحيفة (العربي الجديد)

@@@@@@@@@@

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.