وفاة المناضل السوري (ميشيل كيلو) بعد نصف قرن في محاربة الاستبداد
لم يتفق السوريون على شخصية منخرطة في العمل السياسي المعارض منذ أكثر من 50 عاماً، مثلما اتفقوا على ميشيل كيلو، المولود في مدينة اللاذقية على الساحل السوري عام 1940، والذي درس الصحافة في مصر وألمانيا، وعمل عام 1966 في دائرة الترجمة بوزارة الثقافة في دمشق. انخرط كيلو في العمل السياسي المعارض منذ سبعينيات القرن الماضي، حين كان حافظ الأسد يهندس نظاماً استبدادياً يقوم على أسس طائفية وتحكمه أجهزة أمنية وأدت الحياة السياسية في البلاد.
لن يحرّركم أي هدف غير الحرّية فتمسّكوا بها، في كلّ كبيرة وصغيرة، ولا تتخلّوا عنها أبداً، لأن فيها وحدها مصرع الاستبداد”. هذه كانت كلمات من رسالة مطولة، ودّع فيها ميشيل كيلو السوريين قبل أكثر من أسبوع، على وفاته في العاصمة الفرنسية باريس، اليوم الإثنين، عن عمر يناهز 81 عاماً. ودعا كيلو السوريين، في رسالته التي عُدّت بمثابة “وصية سياسية”، إلى “نبذ العقليات الضدّية والثأرية”، والاتحاد على كلمة سواء ورؤية وطنية جامعة “كي تصبحوا شعباً واحداً”، في محاولة منه قبيل وفاته لتبديد سُحب يأس لم تفارق سماء السوريين في الداخل والخارج.
توفي كيلو فيما يعيش السوريون تحت وطأة أزمات معيشية في الداخل، والتشرد بكل ألوانه في الخارج، وفيما باتت سورية عرضة للتقسيم، بعدما تحوّلت إلى مناطق نفوذ لقوى إقليمية ودولية. رحل كيلو منفيّاً، قبل أن يقطف بنفسه ثمار نصف قرن من العمل السياسي المعارض لتقويض نظام الاستبداد في سورية، ولكنه شهد على مدى أكثر من عشر سنوات انتفاضة السوريين التي لطالما حلم بها، وقضى من أجل الوصول إليها سنوات طويلة من عمره في معتقلات نظام الأسد الأب والابن.
ناصب كيلو نظام الأسد الأب العداء منذ البداية، وعرّى في مداخلة له أمام “اتحاد الكتّاب العرب” عام 1979 ما يسمّى بـ”الجبهة الوطنية التقدمية” التي كان شكّلها الأسد من أحزاب تدور في فلك حزبه، “البعث”، في خطوة من ضمن خطوات اتخذها لفرض الهيمنة السياسية الكاملة على البلاد وإغلاق الباب نهائياً أمام أي تيارات يمكن أن تشكل خطراً على نظامه.
في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، اعتقل نظام حافظ الأسد، ميشيل كيلو، بسبب معارضته محاكمة أعضاء جماعة “الإخوان المسلمين” في سورية، والتي نشطت في معارضة نظام الأسد الذي فتك في عام 1982 بمدينة حماة تحت ذريعة القضاء على هذه الجماعة. قضى كيلو عامين في سجن “المزة” سيئ الصيت في العاصمة دمشق، في تجربة اعتقال أولى. بعد خروجه من المعتقل، غادر كيلو البلاد إلى فرنسا حيث قضى أعواماً قبل أن يعود إلى سورية في عام 1989، مواصلاً عمله في الحقلين السياسي والثقافي، معارضاً للنظام.
في عام 2000، كانت سورية على موعد مع حدث أمِل السوريون أن يؤدي إلى تغيير سياسي جذري في بلادهم بعد عقود من الاستبداد، إذ “مات الديكتاتور” كما صرخ المعارض رياض الترك بعد وفاة حافظ الأسد منتصف ذاك العام. وفي مشهد لا يفارق ذاكرة السوريين بعد أكثر من 20 عاماً على حدوثه، ورث بشار الأسد السلطة عن أبيه، وهو ما أغرى معارضين وفي مقدمتهم ميشيل كيلو، للقيام بنشاط سياسي ضمن ما سمّي حينها بـ”ربيع دمشق” الذي شهد ظهور المنتديات السياسية، و”لجان إحياء المجتمع المدني”. نشط كيلو عام 2000 بكتابة المقالات التي كانت تنشر في صحف لبنانية عدة، والتي شرّح فيها الفساد السياسي والاقتصادي الذي كان ينخر سورية بعد أكثر من 30 عاماً من حكم استبدادي أمني قمعي. لم يدم “ربيع دمشق” طويلاً، إذ ألغت الأجهزة الأمنية كل المنتديات السياسية واعتقلت الكثير من المعارضين، في رسالة واضحة أن شيئاً لم يتغيّر في “سورية الأسد” لا شكلاً ولا مضموناً، وأن سياسة بشار الأسد لن تختلف عن سياسة أبيه في كمّ الأفواه، لمنع أي نشاط يدفع باتجاه “تثوير” الشارع السوري.
عام 2005، وقّع معارضون وتيارات سياسية وقوى تغيير معارضة على وثيقة سياسية تحدد سبلاً لنقل سورية من الاستبداد إلى الديمقراطية، عُرفت لاحقاً بـ”إعلان دمشق”، ثم وقّع ميشيل كيلو مع معارضين “إعلان بيروت – دمشق” في 2006. اعتقل النظام في ذاك العام كيلو وآخرين، وحكم عليه بالسجن لثلاث سنوات بتهمة “نشر أخبار كاذبة وإضعاف الشعور القومي والتحريض على التفرقة الطائفية”. وفي مرافعة شهيرة له أمام ما كانت تسمّى بـ”محكمة أمن الدولة”، قال كيلو: أنا الإنسان والمواطن الحّر ميشيل بن حنا كيلو وغالية عوض، الذي ليس نصير أي جماعة في لبنان أو سورية، وليس نصير أي حزب قائد أو منقاد وأي ثورة، سواء أكلت وطنها أم أكلت ناسها، لأنني نصير وطني الصغير سورية ووطني العربي الكبير، ونصير كل مواطن فيهما، نصير الحرية والديمقراطية.
في ربيع 2011، تحقق ما عمِل ميشيل كيلو وسوريون آخرون عليه طيلة 30 عاماً، حيث اندفعت جموع السوريين إلى الشوارع، معلنة انتهاء “زمن الخوف” وبدء ثورة شعبية جرت كثير من الدماء تحت جسورها بسبب الحرب التي شنّها النظام على طالبي التغيير في البلاد. تطلّع المنتفضون إلى ميشيل كيلو منذ الأيام الأولى للثورة، فلم يخيّب ظنهم كما فعل الكثيرون من المنتمين إلى اليسار السياسي، فأعلن تأييده المطلق للثورة، وهو ما عرّضه إلى مضايقات من قبل الأجهزة الأمنية هددت حياته، لأن هذه الأجهزة تدرك أهمية الرجل واتفاق السوريين عليه. غادر كيلو البلاد خشية التنكيل به، كما فعل أغلب المعارضين المعروفين، ليؤسس مع مجموعة من المعارضين في العاصمة المصرية القاهرة عام 2012 “المنبر الديمقراطي السوري”. ثم أطلق كيلو هيئة “سوريون مسيحيون من أجل العدالة والحرية”، بهدف “ردم الهوّة بين المسيحيين وبقية الشعب…” كما قال حينها. ولكن هذه الخطوة لم تجد ترحيباً من الأوساط السورية المعارضة بسبب الخشية من تكريس واقع بدأ يتشكل في سورية، يقوم على العصبيات القومية والدينية والمذهبية.
عام 2013 انضم كيلو إلى “الائتلاف الوطني السوري” الذي كان تأسس في العاصمة القطرية الدوحة، ثم أسّس في العام ذاته أيضاً “اتحاد الديمقراطيين السوريين”. انسحب كيلو لاحقاً من المشهد السياسي المؤسسي، مستقراً في باريس، حيث تفرغ للكتابة في صحف عربية، تحديداً “العربي الجديد”، التي ظل يكتب فيها عموداً أسبوعياً ثابتاً حتى رحيله، لتشريح ما جرى خلال عقد كامل من عمر الثورة، ولحضّ السوريين على الاستمرار فيها لأن “النظام، مع حليفيه الإيراني والروسي، لم ينتصر”، وفق ما جاء في الرسالة الأخيرة لكيلو الذي قضى أغلب عمره محارباً الاستبداد، مدافعاً عن الحرية. قبيل وفاته بأيام، طالب كيلو السوريين بالإبقاء على التصميم والتوق لـ”استعادة سوريتنا بالخلاص من هذا النظام الذي صادر أكثر من نصف قرن من تاريخ بلدنا”، مضيفا: “شعبنا يستحق السلام والحرّية والعدالة… سورية الأفضل والأجمل بانتظاركم”.
المصدر: الشادوف+ مواقع التواصل