من “ووتر جيت” الي “خاشقجي”: صحيفة تنفرد دوما !(خاص)

1 630

بقلم / أحمد حسن الشرقاوي

بعد إثارتها لفضيحة “ووترجيت” في سبعينيات القرن العشرين، وحتي جريمة مقتل خاشقجي في أكتوبر 2018، لم تتوقف صحيفة ” واشنطن بوست ” الأمريكية طوال 140 عاما من عمرها، عن القيام بدورها في البحث عن الحقيقة التي تؤرق دوما مضاجع بعض القادة والرؤساء.

                                ##############################

يوم الخميس الموافق 6 يونيو من العام 2013، في ذلك اليوم كان الجو رطبا ودافئا في أحد مقاهي هونغ كونغ.

كانت الشمس تنزوي في الأفق البعيد، بينما تلقي بأشعتها الهادئة علي وجه شاب عشريني يجلس في ركن مواجه للباب الرئيس للمقهى خائفا يترقب القادمين، ويحاول ألا يجذب الانتباه.

كان إدوارد سنودن (29 عاما) يترقب وصول اثنين من مواطنيه الأمريكيين العاملين بصحيفة واشنطن بوست ذائعة الصيت ليتمم اتفاقه معهم من خلال الكشف لهما عن سر كبير يستهدف ما وصفه لهما بأنه لمصلحة المواطنين الأمريكيين.

سنودن أيضا مواطن أمريكي ويعمل كتقني متخصص لدى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، كما عمل كمتعاقد مع وكالة الأمن القومي، وقد قرر أن يكشف شخصيته الحقيقية لضيوفه رغم المخاطر الهائلة التي تكتنف تلك المغامرة.

رغبته في إزاحة السر الخطير الذي يحمله كانت أكبر من إحساسه بالخطر. يشعر سنودن بسعادة ممزوجة بخوف يتسربل بشعور مبهج وحذر في آن.

أخيرا وجد تجاوبا من اثنين من العاملين بصحيفة عريقة عمرها يربو على 140 عاما ويحترمها الجميع في أمريكا: إنها صحيفة “واشنطن بوست” ذات المصداقية العالية والتاريخ الطويل من الانفراد والسبق الصحفي في أمريكا والعالم.

لم يمر وقت طويل، حتى حضر بارتون جيلمان وزميلته لورا بويتراس. تعرف عليهما من أول وهلة فقد راجع صورهما على الانترنت. كان يتواصل معهما منذ أشهر، وبعد دقائق قليلة من اللقاء كشف لهما سنودن شخصيته الحقيقية وعنوانه ورقم الضمان الاجتماعي الخاص بالمواطنين الأمريكيين، وكان اسمه الحركي” فيراكس” هو كلمة السر التي عرفاه بها. وبعد عدة أسئلة روتينية من الصحيفة عن مضمون بعض المراسلات المشفرة بينهما، تأكد الصحفيون انه الشخص الذي زودهما بالمعلومات التقنية شديدة التعقيد التي لم يفهما منها سوي القليل.

سنودن أو فيراكس شرح لهما تفاصيل شرائح العرض التي أرسلها لهما على البريد الاليكتروني المشفر والتي تحوي تفاصيل واحد من أهم أسرار الجهاز الأمني الأمريكي، وهو برنامج “بريزم” الذي يوصف بأنه أكبر برنامج تجسس أمريكي على الإطلاق.

البرنامج عبارة عن مشروع ضخم تستخدمه وكالات الأمن القومي الأمريكية للدخول على خوادم شركات كبري مثل مايكروسوفت وآبل وفيسبوك وأمازون وبالتوك و(إيه أو إل) وغوغل وغيرها لجلب أية معلومات تحتاجها من عملاء تلك الشركات، وبدون أية عقبات.

   لم يصدق جيلمان الأمر بعد ان شرحه سنودن بالتفصيل، لكن الصحفي الأمريكي أدرك للوهلة الأولي ان بين يديه انفرادا صحفيا كبيرا يمكن ان يمنحه وصحيفته ” واشنطن بوست” أكبر الجوائز الصحفية في العالم، وهو ما تحقق بالفعل حيث نالت الواشنطن بوست جائزة بوليتزر للصحافة عن العام 2014 عن هذا الموضوع.لا شك انها كانت مخاطرة كبيرة من الصحيفة وناشرتها والمسؤولين فيها، وليست فقط مغامرة من جانب صحفيين شابين في مقتبل عمرها الزمني والمهني، غير ان “واشنطن بوست” أو ” ذا بوست” كما يطلق عليها الأمريكيون، لم تستمد شهرتها ونفوذها وانتشارها بسبب عراقتها فقط، أو تواجد مقرها في “واشنطن” فقط، بل لأنها استطاعت أن توجد لها طريقًا متفردا في عالم الصحافة، يتمتع بالمصداقية والتفاعل مع القضايا المحيطة بها.

واشنطن بوست حصلت على 47 جائزة “بولتزر”، من بينها 6 جوائز منفصلة منحت للصحيفة في عام 2008، إضافة الي 368 جائزة من جمعية مصوري البيت الأبيض.

والسؤال هنا: لماذا أثارت “واشنطن بوست” الجدل خلال الأعوام الماضية؟ وما سر تاريخها الصحفي الذي صنع لها اسمًا خاصًا لدى العديد من القراء والكُتاب والصحفيين والإعلاميين؟

  • تأسست صحيفة واشنطن بوست عام 1877 من قبل ستلسون هيتشينز، الذي جعل منها أول صحيفة في واشنطن تصدر يوميا ابتداء من عام 1880 طيلة أيام الأسبوع دون توقف، ثم باعها إلى فرانك هاتون، لتواجه الإفلاس عام 1933، ويشتريها رجل الأعمال يوجين ماير الذي حققت تحت إشرافه نجاحا ملحوظا مكنها عام 1954 من شراء الصحيفة المنافسة لها آنذاك وهي صحيفة “واشنطن تايمز هيرالد”.
  • بعد أن تولت عائلة غراهام، التي خلفت ماير، إدارة الصحيفة لثمانين عاما، باعتها عام 2013 إلى جوزيف بيزوس مؤسس ورئيس شركة “أمازون” للتجارة الإلكترونية بمبلغ 250 مليون دولار.
  • وقد آلت ملكية الصحيفة العريقة، للملياردير جيف بيزوس في إطار تسوية قضائية خاصة بطلاقه من زوجته التي اقتسمت معه ثروته الهائلة والتي تبلغ نحو 137 مليار دولار بعد الانفصال.
  • وكان الكثير من المراقبين والمتابعين لشؤون الصحافة والاعلام، وأنا منهم، ينتظرون أن تؤول ملكية واشنطن بوست الى السيدة ماكينزي بيزوس التي صارت أغني مطلقة في العالم، ربما تستعيد سيرة السيدة كاثرين غراهام أول ناشرة للصحيفة، والتي ركز عليها الفيلم السينمائي “ذا بوست” للمخرج ستيفن سبيلبرغ، وسيناريو ليز هانا، والذي تم إطلاقه في دور العرض الأمريكية في ديسمبر من العام 2017 الماضي.
  • جسد الفيلم معركة الصحيفة الأمريكية في العام 1971 لنشر أوراق وزارة الدفاع “البنتاغون”، المسربة والتي توضح تورط أمريكا وتسرد الصورة المضللة لها في حرب فيتنام، حيث أشار لـ تقارير سرية حصلت عليها صحيفة “واشنطن بوست The Washington Post “، من داخل مبنى وزارة الدفاع الأمريكية في بداية سبعينيات القرن الماضي.

أوراق البنتاغون:

  • كانت هذه التقارير المسربة تخص الحرب في فيتنام وعُرفت وقتها باسم “أوراق البنتاغون”، ورغم أن الحكومة أصدرت قرارًا يمنع نشر تلك الوثائق خوفًا من إثارة الرأي العام، فإن المسؤولين في صحيفة “واشنطن بوست” خرقوا قرار حظر النشر.
  • جسد الممثل توم هانكس في الفيلم دور رئيس تحرير “واشنطن بوست” بن برادلي، كما قدمت الرائعة ميريل ستريب دور كاثرين غراهام، واستطاع الفيلم أن يجسد بشكل جيد شعور القلق والضغوط الكبيرة التي يتعرض لها الصحفيون، في محراب صاحبة الجلالة، من أجل البحث عن الحقيقة ونشرها.

فضيحة “ووترجيت”

  • تقصى الصحفيان العاملان في صحيفة “واشنطن بوست”: بوب وود وارد و كارل بيرنستاين، في حقيقة تجسس الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس لحزب “نيكسون” الجمهوري، داخل مقر مكتب الحزب، بمبنى “ووترجيت”، وهو ما أدى إلى استقالة الرئيس نيكسون من رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في أغسطس عام 1974.
  • تمت محاكمة نيكسون بسبب تلك الفضيحة، ثم أصدر الرئيس الأمريكي جيرالد فورد عفوًا عنه في سبتمبر 1974، وعُرف فيما بعد بأكبر سبق صحفي في تاريخ أمريكا، بفضيحة “ووترجيت” نسبة إلى اسم المبنى الذي تجسس عليه نيكسون وحزبه الجمهوري.
  • حاز الصحفي في الواشنطن بوست “بوب وود وارد” على جائزة “بوليتزر عن فئة الخدمة العامة” عام 1973 عن عمله مع الصحفي “كارل بيرنستاين” لتحقيقه ذلك السبق الصحفي، كما توارث الأجيال تلك القصة عبر العصور المختلفة، من خلال معالجتها فنيًا، في أكثر من عمل.
  • أصدر وود وارد وبرنستاين كتابًا بعنوان: “كل رجال الرئيس” نشر لأول مرة عام 1974، جمعا فيه كل التفاصيل والمواضيع الصحفية المنشورة الخاصة بفضيحة ” ووتر جيت”، كما تم تقُديم فيلم سينمائي بنفس الاسم، عن القصة ذاتها، مِن إخراج اَلان باكولا عام 1976، حيث جسد الممثل روبرت ريد فورد، شخصية “وودوارد”، وقدم الممثل داستن هوفمان، شخصية” بيرنستاين”.

مونيكا لوينسكي والتحرش الجنسي:

  • في العام 1998، شاركت “واشنطن بوست” في نشر تقارير ومعلومات عن قضية التحرش الجنسي، التي رُفعت ضد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، من قِبل بولا جونز، والتي ذُكرت فيها ادعاءات بتحرشه بعدة نساء أخريات، كان من بينهن المتدربة السابقة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي بطلة فضيحة التحرش الجنسي الشهيرة للرئيس بيل كلينتون.
  • عادة ما تتم الإشارة إلى هذه الفضيحة باسم “مونيكا جيت”، أو “لوينسكي جيت”، حسبما كانت كلمة “جيت” تحظى بشعبية كبيرة منذ زمن فضيحة “ووترجيت”.
  • دخل “كلينتون” خلال فترة الاستئناف في تسوية مع “جونز” تمت خارج المحكمة فوافق على دفع مبلغ 850,000 دولار، مقابل إسقاط جونز للدعوى التي أقامتها عليه.

مقتل خاشقجي:

  • عاد نجم الصحيفة العريقة “واشنطن بوست” ليسطع من جديد، في اَفق السبق الصحفي والانفرادات منذ اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي عقب زيارته لقنصلية بلاده في إسطنبول بتركيا يوم 2 أكتوبر 2018، خصوصا ان جمال خاشقجي كان من كتاب صفحة الرأي في الصحيفة، إضافة لكونه مقيم بأمريكا وأبناؤه يحملون الجنسية الأمريكية الي جانب الجنسية السعودية.
  • كانت “واشنطن بوست” هي أول مَن نشر عن قضية اختفائه، وأسرع المواقع تحديثًا بكل التفاصيل والتصريحات الخاصة بقضيته، ولم تكتفِ بإثارة انتباه الأوساط الإعلامية والصحفية حول العالم بمجرد متابعة أخباره، بل خصصت مساحة بيضاء بالصحيفة، أبرزت فيها عموده الصحفي، الذي كان يكتب فيه مقالاته، ولكن بسطور خاوية، معنونة بـعنوان: “الصوت المفقود”، وتعلوها صورته الشخصية، في إشارة قوية لاختفاء كلماته إثر اختفائه من الحياة.
  • واشنطن بوست ساهمت في تشكيل الرأي العام الأميركي لعقود طويلة واشتهرت بإثارة قضايا سياسية مهمة في تاريخ أميركا أشهرها فضيحة “ووتر غيت”. تصنف الجريدة بوصفها أحد المنابر الإعلامية المؤثرة سياسيا في الولايات المتحدة.

الهيكل التنظيمي للمؤسسة:

  • تمتلك الشركة التي تتبع لها واشنطن بوست عددا من المؤسسات الإعلامية والمحطات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية والمجلات، إضافة إلى عدد من الصحف الأخرى حيث كان من أهم إصداراتها مجلة “نيوزويك” الورقية التي كانت تتمتع بانتشار كبير خارج أميركا قبل تحولها نهاية عام 2012 بشكل حصري إلى موقع إلكتروني.
  • تتضمن الصحيفة أقساما عدة ثابتة تتعلق بالسياسة والقضايا الوطنية والمحلية، والرياضة، وقضايا وأخبار العالم، والأعمال، والتكنولوجيا، ومقالات الرأي، والترفيه.
  • تراجع التوزيع اليومي للصحيفة حيث بلغ في العام 2013 نحو 474 ألفا و767 نسخة يوميا طيلة الأسبوع و838 ألفا و14 نسخة في طبعتها الأسبوعية يوم الأحد.

الخط التحريري:

  • توصف واشنطن بوست بأنها صحيفة “حيادية” شعارها:” الحقيقة تموت في الظلام”، لكنها تعتبر ليبرالية متحررة من الناحية السياسية، خصوصا فيما يتعلق بصفحة الرأي، والتي يستشهد بها النقاد والمتخصصون في الإعلام مع صحيفة “نيويورك تايمز” باعتبارهما يمثلان ما يعرف في أمريكا حاليا باسم:” الإعلام الليبرالي”.
  • تصنف واشنطن بوست بأنها أقرب لدوائر الحزب الديمقراطي منها إلى الجمهوريين، وتجلى ذلك في تأييدها عام 2000 لحملة المرشح الديمقراطي آل غور للانتخابات الرئاسية، التي خسرها أمام جورج بوش الابن، وأيضا حملة باراك أوباما الرئاسية خلال حملته عام 2008.
  • على مستوى السياسة الداخلية، عرفت الواشنطن بوست بتبنيها قضايا الأقليات المهاجرة وحقوق الإنسان والحريات، ورفضت في المقابل “قانون باتريوت” الذي أتاح إمكانية التنصت على المكالمات الهاتفية ومراقبة مواقع الإنترنت والتحويلات البنكية داخل الولايات المتحدة.
  • تبنت واشنطن بوست في مواقفها للسياسة الخارجية “أجندة ليبرالية”، تجلت على الخصوص في طرح عدد من كتابها البارزين تساؤلات بشأن الوجود العسكري الأميركي في مناطق مثل العراق وأفغانستان، وأحيانا معارضته بعد عام 2005.
  • أيدت الصحيفة أيضا منح معتقلي سجن غوانتانامو حق للجوء إلى القضاء الأميركي، وتوفير مدخل للمحاكمة العادلة لهم داخل هذا النظام القضائي الأمريكي.

هيئة تحرير الصحيفة:

  • ساهم في الصحيفة لسنوات طويلة مجموعة متميزة من الصحفيين وكتاب الرأي من بينهم في الماضي فريديريك أيكن، وبيتر بيكر، وآن أبلباوم، وجو بيكر، ورسام الكاريكاتير هيرب بلوك، وديفد برودر.
  • في الوقت الحاضر، تميز فيها آخرون من بينهم بوب وودورد، وروجي ويلكينز، ورسام الكاريكاتير ريتشارد طومسون، والصحفي روبن رايت وديفيد أغناشيوس وروبن رايت، وكتاب الرأي فريد زكريا ويحي حامد وعمرو دراج، والراحل جمال خاشقجي.

(فضيحة كوك).. أشهر إخفاقات الواشنطن بوست:

  • في العام 1981 وبعد حصول مراسلة للصحيفة تدعى (جانيت كوك) على جائزة بولتزر للصحافة عن مقالة لها نشرتها فيها عام1981 تحت عنوان “عالم جيمي” قامت إدارة الجائزة بسحبها منها بعد اكتشاف أن موضوع المقالة كان مفبركا بالكامل.

أشارت توصيات تحقيق بشأن القضية إلى أن الصحيفة “تتحمل مسؤولية إعلام القراء وليس الحصول على جوائز عن طريق نشر قصص مفبركة”.

أحمد حسن الشرقاوي

كاتب صحافي مصري

نائب مدير وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية ( أ ش أ )

مدير مكتب ( أ ش أ) فى لندن ( 2002-2006 )

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية

تعليق 1
  1. […] من “ووتر جيت” الي “خاشقجي”: صحيفة تنفرد دوما… […]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.