محمد عماد صابر يكتب: قراءة في عقلية الروس والأمريكان (1-3)

0 435

لم تكن العلاقات الأمريكية الروسية في يوم من الأيام جيدة طوال ال 100عام الماضية، إلا في فترات قصيرة جدا ولظروف استثنائية اضطرارية. حيث يختلف البلدان على “كل شيئ” ويختلفان في “كل شيئ” ! بداية من ملفات حقوق الإنسان والتغير المناخي، وصولا إلى ملفات سباق التسلح التقليدي والتكتيكي والنووي، فالتفاصيل كثيرة وملفات الخلاف أكثر.

“المعضلة الأمنية Security Dilemma”

البروفسور الأمريكي ” تشارلز زيجلر” المتخصص في الشؤون الآسيوية و العلاقات الأمريكية الروسية، لخص أبرز وجوه الخلاف بين القطبين الأمريكي والروسي في كلمتين اثنتين فقط وهما المعضلة الأمنية(Security Dilemma) حيث يرى من وجهة نظره أن كلا الطرفين الروسي والأمريكي يعتبر الطرف الآخر مصدرا للتهديد، وبالتالي يتخذ الاجراءات التي تحمي مصالحه وأمنه القومي، هذه الإجراءات تستفزُّ الطرف الآخر، وبالتالي يقوم باتخاذ إجراءات مضادة ومماثلة، فيزداد التوتر وتزداد حدة الصراع بين الدولتين.
وحدد زيجلر 8 ملفات بعينها تثير الخلاف بين الروس والأمريكان، منها 3 ملفات تثير مخاوف الروس، و5 ملفات تثير مخاوف الأمريكان.
بالنسبة لروسيا، تتمثل التهديدات الرئيسية في:
1- تفوق أمريكا في الأسلحة التقليدية.
2- وتوسع الناتو شرقا .. حث تراه روسيا عملية تطويق واحتواء لها.
3- التهديد بتغيير النظام في الدول الحليفة لروسيا تحت شعار تعزيز الديمقراطية.
بالنسبة للولايات المتحدة، تتمثَّل التهديدات الأمنية الأساسية في:
1- تركيز روسيا على تحديث الأسلحة النووية.
2- الهجمات الروسية على النظام الأمريكي للحكم الديمقراطي.. ومثال ذلك تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016، وتدخلها للتأثير على الرأي العام الأوروبي بدعم أحزاب يمينية معادية للديمقراطية والنظام الليبرالي لتفتيت أوروبا.
3- استعداد روسيا لانتهاك سيادة الدول المجاورة.. ومثال ذلك جورجيا و أوكرانيا.
4- دعم روسيا للأطراف المارقة.. وأبرز مثال على ذلك إيران وفنزويلا.
5- تطوير الشراكة الروسية مع الصين.. حيث تري الولايات المتحده الأمريكية أن ذلك سيُضرُّ بمصالحها على المدى القريب والبعيد.

“انعدام الثِّقَة Mistrust”

والحقيقة أن جوهر “المعضلة الأمنية” يكمن في “انعدام الثقة”، بمعنى أن سبب المعضلة الأمنية هو انعدام الثقة بين روسيا والولايات المتحدة، وكما تُعدُّ الثقة من الأمور البالغة الأهمية في العلاقات الإنسانية، تُعد كذلك في العلاقات الدولية بنفس الدرجة، فكل الاتفاقات والمعاهدات والمعاملات بين الدول تقوم على أساس مبدأ الثقة حيث لا توجد ضمانة أخرى، فإذا غابت الثقة تنهار كل الاتفاقيات والمعاهدات، و كثير من الحروب تندلع نتيجة لفقدان الثقة والأمثلة لا حصر لها.
والروس والأمريكان لم يثقا أبدا في بعضهما البعض، والتوتر بينهما هو السمة البارزة منذ اندلاع الثورة الشيوعية / البلشيفية أكتوبر 1917، وانقطعت العلاقات بين الدولتين لمدة 16 عاما لأسباب كثيرة لا حصر لها، كان أهمها: أن الثورة البلشفية أطاحت بنظام القياصرة وأتت بالنظام الشيوعي الذي يحتقر نظام الرأسمالية و الليبرالية، والولايات المتحدة هى أهم قلاع الرأسمالية في العالم.
كما أن النخبة الروسية السياسية التي أتت بعد الثورة لم تكن راغبة في التعاون أو التعامل مع الغرب إذ لا تثق فيه أساسا، لذا وقَّعت اتفاقية سلام منفردة مع الألمان (اتفاقية بريست ليتوفسك( 3/مارس/ 1918) وخرج السوفييت من الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي أضرَّ بالغرب والولايات المتحدة، ثم تعمق الخلاف والتوتر بين البلدين على خلفية الاتفاقات الأمريكية الموقعة مع روسيا القيصرية، و مسألة الديون والتعويضات الخاصة بأرباب الأعمال الأمريكيين الذين تمت مُصادرة ممتلكاتهم بعد الثورة، مما اضطرت أمريكا إلى قطع علاقتها مع الاتحاد السوفيتي لمدة 16 سنه، ولم تعترف بالاتحاد السوفييتي إلا في عام 1933 لأسباب اضطرارية وقهرية، حين دخل البلدان في تحالف ضد النازية في الحرب العالمية الثانية، ولكنه كان تحالف المضطرين وتحالف من لا يثق في الآخر.
الرئيس الأمريكي روزفلت الذي وقع الاتفاق مع الروس للتعاون في الحرب ضد النازية، قال لسفيره في موسكو أنا لا استطيع أن أتقبَّل الشيوعية، وأنا واثق أنك لا تستطيع تقبلها أيضا، ولكن من أجل أن أجتاز هذه العقبة- في إشارة إلى النازية- عليَّ أن أضع يدي في يد الشيطان- في إشاره إلى السوفييت.. أما بالنسبة للزعيم الروسي “ستالين” الذي قبل بالتعاون مع الغرب ووقَّع الاتفاقية مع الغرب( أمريكا، فرنسا وبريطانيا في 1941) فهو لا يثق في الغرب مطلقا، ولذلك كان بارعا في إقامة المناطق العازلة التى تحميه من الغرب الغادر.. في هذا السياق يذكر المؤرخ الاقتصادى الأمريكى “بن ستيل” في بداية كتاب (خطة مارشل، فجر الحرب الباردة) أن ستالين بعد استسلام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية 1945، وقف أمام الخريطة الكبيرة لينظر كيف أن القوات السوفييتية وصلت غربا إلى عمق غير مسبوق وسيطرت على ألمانيا الشرقية، وعلى الرغم من هذا الامتداد الكبير والأراضي الواسعة التى سيطر عليها والتى تُعد بمثابة منطقة عازلة بينه وبين الغرب، إلا أنه لم يكن مطمئنا إلى نوايا أمريكا و الغرب، ونظر في الخريطة الكبيرة وقال لمن حوله لا أحب أن تكون حدودنا هنا وأشار إلى جنوب القوقاز جورجيا وأرمينيا أذربيجان، لأن أنظمة هذه الدول من وجهة نظره أنظمة معادية يمكن أن تتعاون مع الغرب. وساوس ستالين لم تكن من فراغ، لأن الاتحاد السوفيتي تم غزوه من قِبل ألمانيا مرتين: في عام 1914، وعام 1941.

“مفارقة غريبة وعجيبة”

معظم الدول التى حاربتها أمريكا في الحرب العالمية الأولى والثانية أصبحت بعد ذلك صديقة إن لم تكن حليفة لأمريكا ( النمسا، المجر، الإمبراطورية العثمانية، إيطاليا، اليابان، وألمانيا )، بينما الاتحاد السوفيتي الذي دخل مع أمريكا في الحربين العالميتين كحليف لم يستطع أبداً أن يكون صديقا للولايات المتحده!. وللحديث بقية.

د. محمد عماد صابر

سياسي وبرلماني مصري

من نواب برلمان الثورة 2012 

*********************************************************************

الآراء الواردة فى المقال تعبر عن صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن موقع الشادوف أو تمثل سياساته التحريرية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.