كيف خططت المقاومة الفلسطينية لتدمير حلم الطاقة الإسرائيلي؟
“كان أشبه بالحلم أو الخيال قبل 10 أو 15 عاما”(1) بهذه الكلمات وصف وزير الطاقة الإسرائيلي “يوفال شتاينتس” دخول دولة الاحتلال قائمة المنتجين للغاز الطبيعي وقيامها بتصديره إلى العالم العربي ودول أوروبية، وذلك خلال اجتماع منتدى غاز شرق المتوسط في عام 2019، وهو أول منظمة إقليمية تكون إسرائيل عضوا فيها جنبا إلى جنب مع دول عربية. كان ذلك إيذانا بتحول الحلم الإسرائيلي إلى واقع، ليس فقط مع تبدُّل وضع دولة الاحتلال من مستورد للطاقة إلى منتج ومُصدِّر لها، ولكن لأن هذا التحول الكبير جرى بمباركة -بل وبمساعدة- عدد من الدول العربية المحورية التي طالما اعتبرت دولة الاحتلال ألدَّ أعدائها.
بدأ الحلم الإسرائيلي في عام 2009 وما بعده باكتشافات متتالية لحقول الغاز الطبيعي في مياه البحر المتوسط، بما يشمل المياه الإقليمية لفلسطين المحتلة التي تسيطر عليها تل أبيب، وبالتزامن مع هذه الاكتشافات بدأ الكيان المحتل يفطن إلى الفرص الاقتصادية والإستراتيجية الكامنة، حيث تزامنت اكتشافات الغاز مع تحولات جيوسياسية أسهمت في إعادة تشكيل علاقات دولة الاحتلال مع الدول العربية وحتى الأوروبية، حيث بدأت إسرائيل في تسويق نفسها بوصفها لاعبا إستراتيجيا في الأسواق الدولية للغاز، وبشكل أخص في ملف غاز شرق المتوسط الذي تضعه عدد من الدول في مرتبة متقدمة على سُلّم سياستها الخارجية.
في ضوء ذلك، يحق لنا أن نفترض بشكل مبدئي أن استهداف المقاومة للبنية التحتية للطاقة في دولة الاحتلال لم يكن قصفا عبثيا، وأهمها مشروع أنابيب خط “إيلات-عسقلان” الذي انهال عليه نحو عشرين صاروخا فلسطينيا، وكذلك منصات الغاز الطبيعي الإسرائيلية في مياه شرق المتوسط، وهو قصف أثار الشكوك حول مدى أمان الاعتماد على إسرائيل كطريق رئيسي في منطقة تعج بالصراعات الجيوسياسية حول الطاقة.
استهدفت المقاومة الفلسطينية إذن الحلم الإسرائيلي عمدا، وفرضت نفسها لاعبا في المشهد بعد استهدافها لحقل الغاز الطبيعي “تمار” قبالة سواحل مدينة عسقلان المحتلة بالقرب من قطاع غزة. كان هذا الاستهداف يحمل في طياته رسائل عدة لم تكن موجهة للاحتلال وحده، لكن أيضا إلى مصر، المتضرر الأبرز من مشروعات الاحتلال الطاقوية، خاصة مع إصرار دولة الاحتلال على استبعاد مصر مرتين من مفاوضاتها مع قبرص واليونان لتصدير الغاز إلى أوروبا، ومع دخول الإمارات بوصفها لاعبا جديدا في مشهد الطاقة في شرق المتوسط بشكل يتعارض بوضوح مع مصالح القاهرة الراسخة.
أدت الاكتشافات الكبيرة لاحتياطات الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط إلى إثارة شهية العديد من الدول لتوسيع نفوذها وسيطرتها على الموارد الجديدة، وقدّرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) أن حوض بلاد الشام وحده والواقع بين فلسطين المحتلة ولبنان وسوريا وقبرص يضم 120 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي القابل للاستخراج، إضافة إلى 1.7 مليار برميل من النفط. (2)
تؤدي هذه الاكتشافات -إذن- دورا مهما في تشكيل الشراكات الاقتصادية بين مختلف الفاعلين، إضافة إلى البعد الإستراتيجي من خلال إعادة رسم خارطة العلاقات في المنطقة(3)، متسببة في تصاعد الصراع الإقليمي على مخزونات الغاز الذي اتخذ أشكالا متعددة، أكثرها جلاءً ما دار بين تركيا واليونان ودعم فرنسا للأخيرة حتى كاد أن ينشب صدام عسكري بين ثلاث دول أعضاء في حلف الناتو، ناهيك ببروز مسألة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل على السطح، وتجدد الخلاف حول منطقة متنازع عليها، ما أدى إلى وصول المفاوضات إلى طريق مسدود.
وكما تسببت مخزونات الغاز الجديد في نشوب الصراعات، فإنها حفزت تشكيل تكتلات إقليمية جديدة رسمية وغير رسمية، أبرزها منتدى غاز شرق المتوسط المعروف اختصارا (EMGF)، الذي تأسس في يناير/كانون الثاني 2019، ويقع مقرّه الرئيس في القاهرة، ويضم سبعة أعضاء مؤسسين، وهم جمهورية مصر العربية واليونان والسلطة الفلسطينية وقبرص اليونانية والأردن وإيطاليا ودولة الاحتلال الإسرائيلي، بصحبة كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا والبنك الدولي بوصفهم مراقبين دائمين، وقد شكل المنتدى مبادرة فاعلة لأجل تأسيس تعاون إقليمي يضم الدول المنتجة والمستوردة للغاز ودول العبور لغاز المتوسط، وهو ما وجدت فيه الحكومة الإسرائيلية فرصة لإقحام نفسها فاعلا رئيسيا في المنطقة، وتعزيز شراكتها مع الدول العربية، ودفع نفسها من الهامش إلى المركز في قضايا الطاقة.
خطا الاحتلال أولى خطواته بتصدير الغاز إلى كل من المملكة الأردنية وجمهورية مصر العربية، مع وجود مخططات لتشييد مشروعات بنية تحتية تستهدف توصيل الغاز الإسرائيلي إلى الأراضي الأوروبية عبر خط الأنابيب “إيست ميد” لنقل الغاز عبر قبرص واليونان بطول 1900 كم تحت سطح البحر، وصولا إلى شبكة أنابيب الغاز الأوروبية عبر إيطاليا، بتكلفة تقارب 6 مليارات يورو.
لكن تشييد البنية التحتية اللازمة للنقل وتشغيل حقول المتوسط بكامل طاقتها وصولا إلى تصدير منتوجها إلى السوق الخارجية، محاط بمجموعة من التعقيدات الاقتصادية والتهديدات الأمنية والعسكرية، وهو ما يدفع الشركات الدولية الكبرى إلى الإحجام عن الاستثمار بعيد الأجل في حقول معرضة لخطر التصعيد العسكري في أي لحظة، خصوصا مع امتلاك خصوم إسرائيل القدرة على استهداف هذه الحقول أو تعطيلها.
كان هذا الهاجس حاضرا في أذهان الحكومة الإسرائيلية منذ اللحظة الأولى، ولهذا فإنها عملت على تعزيز قواتها البحرية وتسليحها بمعدات متطورة، وفي مقدمتها سفينة “ساعر 6” الحربية الألمانية التي تسلمت إسرائيل أولى وحداتها في ديسمبر/كانون الأول 2020 ضمن صفقة مكونة من أربع سفن أبرمتها دولة الاحتلال مع ألمانيا بقيمة 480 مليون دولار في مايو/أيار 2015.
وصف المتحدث باسم جيش الاحتلال الغرض من هذه السفن الجديدة بدقة متناهية(4)، مؤكدا أن هدفها هو “تشكيل حصن بحري منيع لحماية المياه الإقليمية الإسرائيلية ومواردها الإستراتيجية”. وتتميز هذه السفن بإمكانية تزويدها بمجموعة واسعة من الأسلحة بغرض الدفاع والهجوم، بما في ذلك الصواريخ المضادة للسفن، إضافة إلى إمكانية تجهيزها بالنسخ البحرية من القبة الحديدية “C-Dome”. جدير بالذكر أن جيش الاحتلال أبرم في عام 2017 عقودا لشراء معدات وأنظمة دفاع بحري بقيمة 1.5 مليار شيكل (420 مليون دولار) بهدف حماية حقول الغاز أيضا، شملت أنظمة ملاحة وأسلحة حرب إلكترونية (سايبر) ومراكز قيادة وتحكم ملائمة لسفن “ساعر 6”.
ورغم تعزيز القدرات البحرية الإسرائيلية فإنها فشلت في الحفاظ على حقول الغاز خطا أحمر أمام استهداف المقاومة، حيث تمكنت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس في 12 مايو/أيار 2021 من استهداف حقل “تمار” بطائرة مسيّرة من طراز شهاب، ناهيك بمحاولة استهدافه بغواصة مسيّرة تعمل بنظام تحديد المواقع (GPS)، وهو ما تسبب في النهاية في تعطيل العمل في الحقل، وإغلاقه مؤقتا من قبل شركة شيفرون الأميركية المشغِّلة له لمدة تسعة أيام كاملة، قبل أن تعلن إعادة فتحه مع سريان اتفاق التهدئة.
يُعدُّ حقل غاز “تمار” أحد حقول الغاز الرئيسية في المياه الإقليمية الفلسطينية المحتلة، وهو يقع قبالة سواحل عسقلان، وتبعد منصته قرابة 35 كم عن قطاع غزة، وتشير التقديرات إلى وجود 9.1 تريليون قدم مكعب من احتياطات الغاز فيه، وتذهب الحصة الرئيسة منه للسوق المحلية الإسرائيلية، كما يُصدَّر بعض إنتاجه إلى مصر والأردن. وتمتلك شركة شيفرون الأمريكية العملاقة حصة مقدارها 39.66% فيه بعد استحواذها على شركة “نوبل إنيرجي” في يوليو/تموز من العام الماضي، وهي صاحبة الحصة الأكبر ضمن ملاك الحقل.
تتشارك شيفرون ملكية الحقل الإستراتيجي مع كل من شركة “إسرامكو نيجيف” الإسرائيلية (28.75%)، والأهم، مع شركة مبادلة للبترول الإماراتية التي وقعت في أبريل/نيسان الماضي عقدا لشراء الحصة المملوكة لشركة “جيليك” الإسرائيلية في الحقل (22%) بقيمة 1.1 مليار دولار، وذلك بالتزامن مع أحداث الشيخ جراح في مدينة القدس، وقبيل اشتعال التصعيد العسكري بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال بأيام.
من خلال إثبات قدرتها على استهداف حقول الغاز الإسرائيلية الحيوية وخط أنابيب أسدود-عسقلان، فرضت المقاومة الفلسطينية نفسها لاعبا في ملف غاز المتوسط، وأضافت إلى نفسها أوراق قوة لا تتعلق بالاحتلال وحده، ولكنها تتشابك مع مصالح قوى إقليمية عديدة في المنطقة.
بادئ ذي بدء، تسببت ضربات المقاومة في إحداث ضرر بالغ بمكانة إسرائيل الناشئة بصفتها لاعبا إقليميا في سوق الطاقة، وأظهرت عجز دولة الاحتلال عن تأمين مصالحها الحيوية، ومن المتوقع أن تعاود المقاومة إستراتيجية قصف حقول الغاز حال تجدد المواجهات مرة أخرى، بهدف عرقلة أحلام الاحتلال الطاقوية ومعاقبة الشركات العاملة معه وعرقلة وتيرة إنتاجها وتصديرها، وهو ما سيدفع أي شركة تنوي الاستثمار في البنية التحتية في حقول الغاز الإسرائيلية إلى الإحجام والتردد، وهو ما ينطبق أيضا على الدول التي تنوي توقيع عقود لاستيراد الغاز من إسرائيل، والتي ستشرع في البحث عن موردين بديلين أكثر أمنا.
يمكن للمقاومة أيضا أن تستخدم قدرتها على الردع العسكري من أجل إجبار إسرائيل على تقديم تنازلات على صعيد السماح بتطوير حقل غزة مارين القابع في المياه الإقليمية قبالة سواحل القطاع، ويقدّر حجم احتياطي الغاز فيه بـ1.2 تريليون قدم مكعب، مقابل تراجعها عن استهداف الحقول التي يشغلها الاحتلال، وأخيرا والأهم فإن المقاومة الفلسطينية، ومن أجل إثبات قدرتها على تهديد مشاريع الطاقة الإسرائيلية، ترسل رسائل إلى الدول العربية المطبِّعة حديثا مع إسرائيل والمنخرطة معها في مشروعات الطاقة الضخمة، وفي مقدمتها الإمارات المشاركة في حقل تمار وخط أنابيب عسقلان، حول خطأ رهانها على الفوائد الاقتصادية للتطبيع مع إسرائيل على حساب الفلسطينيين.
تبعثر صواريخ المقاومة -إذن- أوراق مناصري التطبيع بالقدر ذاته الذي تخلط به أوراق حكومة الاحتلال نفسها، ولكنها في الوقت نفسه تقدم أوراق اعتمادها بصفتها حليفا محتملا وذا جدوى بالنسبة إلى مصر التي تعتبر نفسها اليوم أبرز المتضررين من الشراكة المتزايدة بين تل أبيب وأبو ظبي في مجال الطاقة، خاصة أن هذه الشراكة تهدد طموحات مصر في التحول إلى مركز إقليمي للغاز لصالح إسرائيل التي باتت أكثر ميلا لاستبعاد مصر من خططها، كما تهدد حركة الشحن عبر قناة السويس من خلال نقل جزء من تجارة الطاقة إلى خط إيلات-عسقلان.
باستهدافها حقل الغاز الطبيعي “تمار” تكون قد دشنت مرحلة جديدة عنوانها القدرة على تعطيل مصادر الطاقة الإسرائيلية، وقد تكون مستقبلا أمام مرحلة أخرى تتحول فيها من التعطيل إلى التدمير، وهو ما سيضع أمن الطاقة في الكيان العبري أمام اختبارات حرجة، ويضع التحالفات الإقليمية الناشئة والهشة أمام اختبارات جدية غير مسبوقة.
المصدر: الشادوف+الجزيرة