علاء بيومي يكتب : تفسيران لمذبحة ( رابعة العدوية )
تكتسب المذبحة التي ارتكبت في ميدان رابعة العدوية (في مثل هذا اليوم قبل ثماني سنوات) في القاهرة أهمية دولية وليست مصرية فقط، والسبب الرئيسي في ذلك ما شرحته منظمة هيومن رايتس ووتش، في تقريرها الصادر بعد عام من المذبحة، تحت عنوان “حسب الخطة … مذبحة رابعة والقتل الجماعي للمتظاهرين في مصر”، حيث ذكرت المنظمة أن المذبحة شهدت أحد أعلى وأسرع معدلات القتل الجماعي للمتظاهرين السلميين، لأسباب سياسية في العصر الحديث.
بدأت المذبحة في السادسة والنصف صباحا بتوقيت القاهرة، واستمرت حتى الخامسة والنصف مساء الرابع عشر من أغسطس/ آب 2013، وتخلّلتها ساعة أو ساعتان من الهدوء النسبي حول فترة الظهيرة، بعد أن واجهت قوات الجيش والشرطة المشاركة في فض الاعتصام في الميدان مقاومة مرهقة من المتظاهرين السلميين، فلجأت لاستراحة في الظهيرة، لتعاود بعدها الفض بقوة وعنف أقوى مما سبق، ما أدّى إلى انهيار الاعتصام “المرتجل”، كما وصفته “هيومن رايتس ووتش”، سريعا بعد أن تعرّض لحجم مفرط وغير مسبوق من العنف من قوات الأمن.
خلال حوالي 11 ساعة وربما أقل، تم قتل أكثر من ألف شخص، كما ترجّح المنظمة في تقريرها، وهي معدّلات غير مسبوقة عالميا. وربما تمثل ضعف ما تم تسجيله في السابق. وهنا تشير المنظمة إلى أن مذبحة ميدان “تيان آن مين” في بكين في عام 1989، راح ضحيتها مابين 400 إلى 800 شخص، خلال 24 ساعة. وهذا يعني أن معدّلات القتل في ميدان رابعة ربما تعد الأعلى والأسرع عالميا.
وللأسف أكد مسؤولو الحكومة المصرية في ذلك الحين، مثل وزير الداخلية محمد إبراهيم، ورئيس الوزراء حازم الببلاوي، لوسائل الإعلام بعد الفضّ أنهم توقعوا وقوع أعداد أكبر من الضحايا، قدّرت بحوالي 10% من المتظاهرين، وأنهم توقعوا وجود 20 ألف متظاهر في الميدان ساعة الفض، وتوقعت “هيومن رايتس ووتش” أن الأعداد كانت أكبر من ذلك. وهذا يعني أن الحكومة المصرية توقعت وخططت لقتل ألفي متظاهر أو أكثر بأسرع وقت ممكن، كما يؤكد عنوان تقرير المنظمة الحقوقية الدولية ومحتواه، وهو ما يطرح سؤالا مهما وأساسيا عن أسباب ذلك القمع المفرط وغير المبرّر؟ ولماذا أصرّت السلطات المصرية على قمع الاعتصام “المرتجل” بهذا الشكل؟ خصوصا أن المعتصمين لم يكونوا مسلحين، وفقا لشهادة الحكومة المصرية نفسها، ولأنهم لم يقوموا بما يبرّر هذا القمع؟
ويركز هذا المقال على تفسيرين للأحداث، أولهما قريب ظاهر، والآخر بعيد وأعمق، اعتمادا على مراجعة حديثة لأهم المصادر الدولية التي تناولت المذبحة، وفي مقدمتها تقارير المنظمات الحقوقية الدولية الكبرى، مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، وبعض تقارير وكالة رويترز للأنباء عن أحداث تلك الفترة، وكتاب مراسل صحيفة نيويورك تايمز، ديفيد كيركباتريك، “في أيدي الجنود”، الصادر في 2018.
أولا، وفيما يتعلق بالتفسير الظاهر أو الأولي للأحداث، ينبغي العودة إلى انقلاب “3 يوليو” (2013) لحظة مؤسّسة لفض الاعتصام في ميدان رابعة، فالانقلاب كان يحتم فرض السلطة الجديدة المنشأة له بأي ثمن، لأن عودة السلطة القديمة (الرئيس محمد مرسي والمؤسسات المنتخبة) كان تعني ضمنيا تقديم السلطة المنقلبة للمحاكمة بتهمة الانقلاب، وهو ما لم يرده المنقلبون. لذا تفيد التقارير الدولية بأنه في الأيام القليلة التالية للانقلاب تم اعتقال مئات من قيادات جماعة الإخوان المسلمين عبر البلاد، ما أدّى إلى ترنح الجماعة وقدرتها على إدارة المشهد بعد أن صارت مطاردة، وتعرّضت مكاتبها لهجمات عنيفة عبر البلاد. وخلال الأسبوع الأول للانقلاب، حذرت منظمات حقوقية دولية، كالعفو الدولية، من أن قوات الأمن المصرية لا تتدخل لفضّ الصدامات التي اندلعت في تلك الفترة بين جماعة الإخوان المسلمين وخصومها السياسيين عبر البلاد، كما حذّرت أيضا من أن قوات الأمن تحاول فضّ بعض الاعتصامات التي نظمها أنصار الرئيس مرسي بشكل دموي عنيف، وبقوة مفرطة، كما حدث في مذبحة الحرس الجمهوري (الجمعة 5 يوليو/ تموز 2013)، والتي راح ضحيتها أكثر من 50 متظاهرا، حيث حاولت قوات الجيش فض اعتصام أمام أحد مقرّاتها في القاهرة بالقوة المفرطة، ما أدى إلى وقوع عشرات الضحايا بشكل غير مبرّر.
لذا بدأت المنظمات الدولية تحذر من كارثةٍ يتم الإعداد لها في ظل حالة الاحتقان السياسي، وعدم قدرة قوات الأمن على ضبط سلوكها، وإصرارها على الاستخدام المفرط وغير المبرّر للقوة المميتة، في الوقت الذي بدأ فيه “الإخوان” يفقدون السيطرة على الاعتصام، كما حذّر مراسل “نيويورك تايمز”، والذي تحدّث في كتابه عن سلمية الاعتصام من ناحية، وطبيعته العفوية والأسرية، وكيف كان أشبه بمدينةٍ مثاليةٍ لأنصار الإخوان المسلمين والتيار الديني، ولكنه حذّر أيضا من الاحتقان السياسي والطائفي المتزايد لخطاب منصّة الاعتصام في الميدان، والذي رفضه بعض شباب الجماعة، كالناشط محمد سلطان. كما تحدث أيضا عن حالة الانفصال بين ميدان رابعة والحياة خارجه، والتي كانت تسير بشكل طبيعي في ظل حرص السلطات الشديد على عودة الخدمات الأساسية، والتودّد للمواطنين. وفي ظل تحامل الإعلام الحكومي والخاص وجبهة الإنقاذ والقوى الإقليمية على جماعة الإخوان ومحاولة وصمهم بالعنف والإرهاب، بشكلٍ خارجٍ عن المنطق والسيطرة، وبنغمةٍ لا تتردّد في نشر الكراهية ضدهم.
في ظل هذه الأوضاع، لم يفعل المجتمع الدولي الكثير لوقف الكارثة القادمة لا محالة. واكتفى الرئيس الأميركي، أوباما، بإرسال مبعوثه وليام بيرنز، كما أرسل الاتحاد الأوروبي مبعوثه برناردينو ليون، ونزل إلى القاهرة في التوقيت نفسه وزير الخارجية القطري السابق، خالد العطية، ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، في محاولة للضغط على أطراف الأزمة المختلفة، ومنع الفض الدموي للاعتصام، وما قد يترتّب عليه من تعريض أمن البلاد للمخاطر وعدم الاستقرار سنوات.
وتفيد تقارير وكالة رويترز، والشهادات التي أوردها كيركباتريك في كتابه، بأن المبعوثين الدوليين نجحوا في التوصل إلى اتفاق مع المعسكر الداعم للرئيس مرسي يقضي بخفض التوتر، وتقليل أعداد المتظاهرين في الميدان، في مقابل إفراج السلطات الحاكمة عن عدد قليل من المعتقلين بادرة حسن نية، يعقبها جلوس الطرفين للتفاوض، بنية التوصل إلى حلّ سلمي يضمن عدم الفض العنيف، ويحافظ على الانتقال السلمي والديمقراطي للسلطة. وتذكر التقارير ذاتها أن السلطات المصرية نفسها هي من رفضت هذا الحل، وأصرّت على الرفض العنيف بدعم من أطراف خارجية، مثل دولة الإمارات، كما يقول كيركباتريك بصراحة. وهنا نعود مجدّدا إلى فكرة أن الانقلاب العسكري لم يكن ليسمح أبدا بالعودة إلى الاحتكام للحوار وقواعد الديمقراطية.
بناء عليه، يمكن القول إن عملية الفض العنيفة الرافضة للحوار وللوساطة الدولية، وغير المعنية بالتكاليف الإنسانية والسياسية، كانت مقصودةً بغرض تثبيت السلطة الجديدة من ناحية، ولتأسيس مرحلة سياسية جديدة اتضحت معالمها فيما بعد، مرحلة لا تبالي بحقوق الإنسان، وترفض السياسة، وتستخدم القمع أداة أساسية في التعامل مع الخلاف السياسي والمعارضين. ولهذا، استخدمت السلطات قوة مفرطة وقوات ضخمة (بما في ذلك المروحيات والمدرعات والقناصة، كما يشير تقرير هيومن رايتس ووتش) في القضاء على اعتصام مدني مرتجل.
ولكن التفسير السابق يقف عاجزا أمام عدة أمور، في مقدمتها قبول الشعب المصري هذا المستوى غير المسبوق للعنف الممارس في حق بعض أبنائه، وإقدام قوات الأمن نفسها على تنفيذه، وكذلك إقدام قادة “الإخوان المسلمين” أنفسهم على الاستمرار في الاعتصام، وعدم وعيهم بالتكاليف الإنسانية الباهظة لذلك، أو محاولتهم تجنبها من خلال تحرّك سياسي سريع يجنّب أنصارهم السيناريو الأسوأ، وكذلك سرعة تدهور الظروف في مصر من فبراير/ شباط 2011، والتي شهدت أوج نفوذ ثورة يناير والقوى المشاركة فيها، وانقلاب 3 يوليو 2013، والذي شهد قمة الانقسام السياسي، وتراجع شعبية مختلف شركاء “يناير”.
وهذا يدفع إلى البحث عن تفسير ثانٍ أعمق لمذبحة ميدان رابعة العدوية، لا يعتقد الكاتب أنه تم تقديمه، حيث سيطرت عقلية الحشد السياسي وتغليب العاطفة على عقلية نشطاء سياسيين ومتابعين كثيرين، وحتى الآن لم يتم تقديم تفسير عميق للمذبحة، وكيف تم تنفيذها والقبول بها داخليا ودوليا بهذا الشكل، ولا يدّعي الكاتب هنا القدرة على تقديم إجابة سريعة ووافية عن هذا السؤال، ويكتفي بطرحه والدعوة إلى دراسته. بمعنى آخر، يجب أن يتوقف المصريون طويلا أمام ما جرى، فهي مذبحة سياسية غير مسبوقة في التاريخ الحديث داخليا وخارجيا، وأن يسألوا أنفسهم عن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة التي أدّت إلى وقوع تلك المذبحة على أرضهم، وما يعنيه ذلك، وهل يمكن أن تتكرّر؟ وكيف تغيّروا خلال العقود الأخيرة لتشهد بلادهم هذه المذبحة المفجعة؟
علاء بيومي
كاتب وباحث مصري
@@@@@@@@@@@@@@@@@
مقالات الرأي تعبر عن آراء أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية