شادي لويس بطرس يكتب:الطفل المخطوف بالمحلة..تلفزيون الواقع المصري

0 596

تستخدم وزارة الداخلية واقعة اختطاف طفل محافظة الغربية، لتعطينا لمحة من تلفزيون الواقع المؤدلج. حادثة الخطف نفسها، مسجلة بفضل إحدى كاميرات المراقبة الخاصة، الكاميرات التي انتشرت بشكل واسع في الأعوام القليلة الماضية، أمام وداخل الأبنية السكنية والمحال والأنشطة التجارية، بدافع من شعور عام بالهشاشة، أو الحاجة المتزايدة للشعور بالأمن، الممكن إشباعها عبر تكنولوجيا غدت متاحة بسهولة وذات كلفة رخيصة.

والأهم هو ذلك الإلحاح الطاغي والجماعي على المراقبة المتبادلة بين المواطنين، نوع من التلصص الأهلي المعزز بعدم الثقة، الممكن له أن يغدو جزءاً من عمل مؤسسات الأمن بشكل مباشر أو غير مباشر.

بكادر من أعلى، يظهر تسجيل كاميرا المراقبة سيارة تتوقف أمام محل، وينزل منها عدد من الأفراد، ليخطفوا الطفل ويضعوه داخل السيارة، ومن ثم ينطلقون. تلك مادة خام بالطبع، لا يمكن التشكيك في صدق محتواها، لكن يمكن تضخيم أثرها العاطفي عبر التغطية المبالغ فيها من وسائل الإعلام. المخاوف من اختطاف الأطفال، هوس متواتر في المجتمع المصري، ومنذ وقت طويل، وربما في مجتمعات أخرى كثيرة.

القصة التوراتية التي ورثتها الأديان الإبراهيمية عن سليمان والمرأتين المتقاضيتين أمامه على نَسَب رضيع واحدة منهن، توحي بأن الأمر يحمل جانباً غريزياً، أي أن الأطفال، بوصفهم الأكثر هشاشة، هم بؤرة لقلق الجماعة البشرية ومخاوفها. وبشكل خاص في السياق المصري، كوابيس اختطاف الأطفال لإلحاقهم بالمدارس قسراً ومعسكرات السخرة وثكنات الجيش، هي تروما تاريخية مرتبطة بتأسيس الدولة الحديثة.

لا أحد بالضرورة تربطه بتلك الأحداث التأسيسية ذاكرة حية ولا حتى منقولة جيلياً، إلا أن حداثة الحواضر الشاسعة والمكتظة وأُسرها النووية المعزولة المقتلعة من جذورها، ارتبطت بصعود هواجس بطريركية صغيرة، ذكورة أبوية تشعر بالتهديد الدائم، وعلى الأخص من انفلات النساء وضياع الأطفال، وسط مدن صاخبة ومضطربة.

النظام الذي فقد معظم مبرراته لترويج الخوف من تهديدات وجودية للبلاد، ينتهز جريمة صغيرة، ومهمة شرطية اعتيادية، لإعادة إنتاج خطاب الهلع المقرون بالضرورة الأمنية. الخطر لا يأتي من غزة هذه المرة، ولا من الحدود الغربية، ولا من منابع النيل، ولا من تحالفات إقليمية ولا من الغرب، الخطر موزع بالمقدار نفسه في كل شارع وفي كل زاوية، وبالتساوي داخل كل بيت، وعلى كل أسرة، مهدداً أعز ما تملكه، وأكثر أفرادها هشاشة، خطر دائم وفي كل لحظة وبيننا.

في بداية مقطع الفيديو، يظهر ( الرئيس) السيسي على منصة، بزاوية تصوير جانبية، وفي الخلفية مسطح أخضر متسع، في نهايته ومن بعيد نرى أضواء سيارات تتحرك ببطء في ظلام خفيف، ولا يسمح لنا كادر التصوير سوى برؤية النصف العلوي من جسد الرئيس، ولا نرى الجمهور الذي يوجه إليه حديثه.

ببطء واثق وتشديد على كل كلمة، يصرح السيسي: “أنا بقول للمصريين… أطمئنوا”، وفي الخلفية الصوتية وعلى وقع تلك الكلمات نستمع إلى مارش عسكري، يرتفع صوته ويتصاعد إيقاعه تدريجياً. يدعو الرئيس مستمعيه إلى التصدي لأي محاولة “للمساس بأمن مصر”، وفي الجملة التالية، يطمئنهم مرة أخرى، بينما يتغير محتوى الرسالة قليلاً. فسبب الطمأنينة هو أن “احنا هنا، دايماً جاهزين، ومستعدين”. ومن دون مشقة كبيرة، يمكننا تخمين هوية المشار إليهم بـ”نحن” هنا، الدولة، وجيشها وأجهزتها الأمنية.

في المشهد التالي، ومع ارتفاع الأغنية ذات اللحن شبه العسكري، “دايماً جاهزين”، تلاحق الكاميرا من الخلف سيارة للشرطة للمصرية تسرع على طريق مظلم، قبل أن تتوالى مجموعة من اللقطات القصيرة وقطوع المونتاج السريعة، لعملية اقتحام مبنى في الليل، على نمط أفلام الأكشن، وينتهى الأمر بتحرير القوات الخاصة لأحد الأطفال، والقبض على خاطفيه.

يبدو المشهد مرسوماً بعناية، وأعيد تمثيل العملية كلها أمام الكاميرا. ومن لقطة دوارة للمبنى، يمكننا افتراض إن الكاميرا مثبته على رافعة، وطاقم التصوير جيد التجهيز. وفي المشهد الأخير من ذلك المقطع الذي نشرته وزارة الداخلية المصرية أمس، يظهر حشد بالمئات يحتفلون في ساحة عامة بتحرير الطفل “زياد”، فيما تتداخل الأغنية، مع مؤثرات صوتية توحي بهتافات جماعية هادرة، تعقبها لقطة طويلة نسبياً للجماهير التي تحمل الطفل على الأعناق وهي تغني بنشوة مهرجانية مع التصفيق والرقص على إيقاعات الرق والطبلة، فيما تمر سيارة شرطة تبرق إضاءتها الملونة وسط حبور الجماهير.

شادي لويس بطرس

كاتب وباحث مصري

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.