حجاج نايل يكتب لـ (الشادوف) : تونس من الفجوة الي الكبوة !
احداث تونس الأخيرة والتدابير الي اتخذها رئيس الجمهورية التونسية قيس سعد لم تكن مجرد إجراءات اعتيادية او عاكسة للمشهد السياسي في تونس وما يكتنفه من أزمات وعواصف اعتدنا عليها بين الحين والأخر ين القوي السياسية المختلفة ظني ان هذه الإجراءات ذات دلالة ومغزي ابعد بكثير من الجغرافيا التونسية بل ازعم انها تمتد لمحيط إقليمي ودولي بات يعمل علي تحديد خياراته السياسية والاقتصادية بصورة لا تحتمل الانتظار ومن المؤكد ان السجال السياسي علي الساحة التونسية لعب دورا أساسيا في التعجيل بهذه الإجراءات وفي ذات الوقت قدم ثلة من المعطيات التي قد تدفع بالمجال السياسي التونس الي الحسم باتجاه العودة الي منظومة الدول الاستبدادية وفي اسوا الخيارات الي العهد السابق علي الثورة التونسية ان لم يكن ارتدادا قويا الي الخلف كما حدث في الجارة المصرية ولتفكيك مجريات الاحداث علينا تتبع مسارات الفجوة في عصب الثورة التونسية والتي كان يعول عليها جل التيارات المدنية والليبرالية والحقوقية واليسارية في المنطقة العربية
1- الفجوة الاولي برغم محاولات التوفيق الهزيلة والهشة الي اتبعتها النهضة التونسية وزعيمها الغنوشي للتلفيق والترقيع والتقية لمسايرة المجتمع التونسي وقواه المدنية واظن هذا ما فعلته حركة النهضة التونسية طوال تاريخها في محاولة للمزج بين الايدلوجيا والقيم الإنسانية وبين القيم الدينية بل تطرفت في بعض الأحيان لرفع شعارات اكثر ليبرالية من أصحابها واستفادتها الكبيرة من تجربة الجماعة الام في مصر والعمل علي تجنب نفس المصير الا ان التعايش مع هذه الحركة افرز صراعا يوميا وجوهريا اصبح من الصعوبة بمكان التوائم مع هذا الفرز والاستقطاب الحاد الذي كان ولازال دوما تحت الرماد الساخن في التربة التونسية برغم محاولات التلفيق والتوفيق المقيتة من قبل حركة النهضة من جانب ومن قبل التيارات المدنية التي أمنت بإمكانية التعايش المشترك وصياغة برامج الحد الأدنى ومن اسف في كل تجربة يثبت التاريخ انه لا مجال للمماحكات ولا مجال للتوفيق والتلفيق وبرهن بشكل قاطع علي انه لا صلة للدين بالسياسة ولا يصلح ولا يستقيم الحكم بمرجعيات دينية رجعية في احسن الأحوال تقوم علي التهميش والاستبعاد والتمييز بين بني البشر علي أسس الدين والعرق واللغة لكن وبطبيعة الحال لا احد يستطيع ان ينكر او يقوض حق هؤلاء في التعبير عن آرائهم وافكارهم في مناخات من الحرية والديمقراطية ولا يمكن التواطؤ او الصمت علي الانتهاكات التي يتعرضون لها
2- الفجوة الثانية علي الجانب الاخر التيارات المدنية في تونس والتي تحمل نفس امراض وتشققات كل النخب العربية او الأوسطية فهي تفتقد الي التنسيق والتوحد وبناء مواقف جامعة ومشتركة تعتمد بشكل كبير علي الزعامات والقيادات الشخصية ولا مجال في هذه التيارات للمأسسة والمؤسسية تستمد نصف الشرعية برغم الثورات والانتفاضات الشعبية من احاجي وقوانين وأنظمة النظم القديمة المستبدة كامتداد لها مستبعدة الخيارات الثورية الراديكالية ونصف الشرعية الاخر من تبوؤا بعض قيادتها فتات من الكعكة في صورة مناصب ووظائف كلجان الاشراف علي الانتخابات ولجان صياغة الدستور ولجان يتم تشكليها خصيصا لهذه النخب المتهافتة بل لمجرد اشراكها في الحوار مع مؤسسات الدولة العميقة تقوم بخلع سراويلها الداخلية علي الفور وتضع بصمتها مؤكدة شرعية أنظمة عسكرية واستبدادية وفاسدة برغم ما يجري من انتخابات وبروبوجندا ثورية وهذا تقريبا ما حدث في الانتفاضات المصرية والسودانية واليمنية
3- الفجوة الثالثة ثنائية الرعب والهلاك التي تعيشيها شعوب المنطقة بوجه عام والشعوب التي انتفضت علي وجه الخصوص ما بين رعب تيارات الإسلام السياسي وهلاك الأنظمة العسكرية والمستبدة اجمالا ظلت هذه الفجوة ممتدة منذ عهود الاستقلال عن الاستعمار في منتصف القرن الماضي ولكي لا نغض الطرف عن عدد من الاعتبارات الموضوعية التي تسببت في هذه الفجوة ومنها الضربات الأمنية والبوليسية لكل التيارات اليسارية والمدنية لصالح تيارات الإسلام السياسي وبخاصة في سبعينات القرن الماضي مع تعاظم المد الإسلامي والوهابي والثورة الإيرانية والصراع في أفغانستان والدعم المالي الكبير واللوجستي الذي قدمته هذه الأنظمة للاسلامويين في مواجهة المد الماركسي حول العالم الا ان الامر استمر حتي في ظل التناقضات التي حدثت بين هذه المجموعات الإسلامية وأنظمة الحكم بل تحول الامر للأسف الشديد الي عقيدة لدي الشعوب المنهكة فهم لا يعرفون طريق ثالث ولا ينتبهون لوجود تيارات اخري في المنتصف بين العسكر والدين وكانت تجربة الانتخابات الرئاسية في مصر 2012 بين الدكتور محمد مرسي والفريق احمد شفيق من اكبر الأمثلة علي ذلك حيث كان الموقف المبدئي في ذلك الحين هو عدم التصويت لا منهما الا ان النخبة المصرية قررت الاستعانة بعصير الليمون مما ساهم في تعقيد المشهد السياسي المصري وبرغم فارق الوعي السياسي لدي الشعب التونسي الذي قرر بإرادة حرة عدم التعاطي مع هذه ثنائية الرعب والهلاك الا انه جاء بمشروع ديكتاتور لا ينتمي ولا ينحاز الي أي ايدلوجية او منهج سياسي الا فرديته وعدم ايمانه بالمؤسسات التي قام بحلها جميعا واستجمع كافة السلط والصلاحيات في يده فهل هذا هو المخرج ربما فجوة ثالثة بامتياز
4- الفجوة الرابعة وهي تلك اللعبة القديمة المستهلكة والتي يتم إعادة انتاجها بصورة محبطة ومخيبة للآمال وكأنها سيمفونية سخيفة ثقيلة الدم ومكررة في كل بلدان الربيع العربي وهي التحرير الكامل للاقتصاد الي حد الترهل والرخاوة مع التشديد والقيود الصارمة علي الحقوق والحريات وهذا بدوره ساهم في تغول وشيوع الفساد الكبير والصغير بصورة متجاوزة بألاف الاميال الفساد الذي كان في عهود مبارك وبن علي فزادت الفجوات المعيشية والطبقية بصورة فادحة وانتشر الهليبة ولصوص المال العام والفاسدين بل الاسواء من ذلك انهم تربعوا في مواقع سياسية وبرلمانية حساسة ودخلت بعض قطاعات الدولة العميقة علي منظومة الفساد كالجيوش والأجهزة الأمنية غير مكترثين حتي بترك الفتات وبقايا الرزق والطعام التي كان مبارك وبن علي يتركوها للشعوب لتتنفس وتأكل وتعيش لم يفعل هذا المسخ المكون من نخب ثورية متهالكة ومؤسسات دولة عميقة فاسدة بطبيعة الحال وتيارات دينية تعمل وفق مصالحها الانتهازية المباشرة لدرجة وضعت الدول العربية وبلدان الثورات والانتفاضات في ذيل ومؤخرة مؤشر مدركات الفساد لذي تصدره منظمة الشفافية الدولية كل عام بل كانت المفاجأة ان مواقع ودرجات هذه الدول في المؤشر اسوا بكثير مما كانت عليه في ظل الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب بسبب الفساد المؤسف أيضا ان الفساد في هذه المرحلة في تونس ومع هذه النظم الهزيلة اتخذ اشكالا وابعادا اكثر جسامة كميا وكيفيا بفعل حالة تخالج القوي السياسية المشاركة في الحكم بأجنحته الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية ولجانه المنشرة في كل قطاعات الدولة والتي شكلت وتأسست كهدايا للبعض بأنها شريك في الثروة والكعكة وليست شريكا في المسئولية عن اوطان وشعوبا جائعة
5- الفجوة الخامسة وكما اشرت في مقدمة المقال بأن الوضع في تونس لا ينفصل عن الوضع الإقليمي والدولي وقد تكون هذه التدابير والإجراءات هي مراءة عاكسة لهذا الوضع المتردي فتونس محاطة بدول استبدادية وفاسدة في كل الجوار القاري والحدودي بل هناك بعض دول الجوار المتاخمة لها تحسم قضاياها بالنزاع السلح والقتل علي الهوية وجارتين يستبد بهما العسكر والجيوش واحدة ترفض تنازل العسكر عن مكتسبات تاريخية في نهب ثروات الشعب الجزائري والجارة الأخرى جثم العسكر علي كل منافذ الحياة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وفنيا بصورة اكثر فجاجة من نازية هتلر لم ولن يساعد الوضع الإقليمي تونس علي ان تكون واحة الديمقراطية في هذا محيط الرعب والنار بل ما حدث هو اول اشعارات الحرب وبتنسيق محكم ضد الجارة الديمقراطية ولن تهدا هذه الأنظمة او يطمئن بالها الا بسقوط ما تبقي من ديمقراطية تونسية علي الجانب الاخر تظل حاجة الغرب والولايات المتحدة الامريكية للأنظمة الفاسدة المستبدة علي حساب الديمقراطية وحقوق الانسان هي الأصل والاساس والذي يؤمن حاجتها الي حماية إسرائيل ومنع الهجرة غير الشرعية وتنفيذ الاجندات السياسية والاقتصادية والتي تتباري هذه الأنظمة في اثبات ولائها للغرب وامريكا
6- سيناريوهات المستقبل
7- كما قال أحد العظماء بان المياه لا تجري في النهر مرتين وظني وقد أكون مخطئا بأن الوضع في تونس يتجه الي الاغلاق وعدم العودة الي مرحلة الترهل السياسي والديمقراطي والتي كانت سائدة منذ 2011 وسيشهد الواقع التونسي مزيدا من الاستقطاب الحاد الناجم عن هذه الإجراءات والتدابر في نسخ حرفي للتجربة المصرية مع الفارق في حدة وبشاعة الانتهاكات في التجربة المصرية لن تشهد تونس اعتقالات واختفاء قسري وقتل خارج نطاق القانون علي غرار التجربة المصرية لكن علي الأرجح سيتجه الوضع التونسي لمزيد من القيود علي حقوق الانسان والحريات الأساسية مع اجراء بعض التعديلات الدستورية والقانونية التي تدعم استبعاد وتهميش لحركة النهضة عن أي مشاركات قادمة في المؤسسات السياسية وقد يكون الوضع مرشحا للانفجار في حالة عدم استجابة هذه الحركة للتوجهات الجديدة لنظام الحكم في تونس.
حجاج نايل
حقوقي مصري مقيم فى كندا
استشاري لدي مؤسسات الأمم المتحدة
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
مقالات الرأي تعبر عن آراء أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أو سياساته التحريرية