جحا المصري.. وأسطورة سيزيف: المسرح العربي بين الأصالة والمعاصرة

0 722

في إطار مسرح العبث السياسي والجنون في منطقتنا، تنتابني الحيرة والاندهاش أحيانا من سلوك وتصريحات بعض المسؤولين في المنطقة” التي أصبحت مؤخرا ” مسخرة كاملة المعاني ومتكاملة الأركان”.

الكثيرون يتخذون من هؤلاء ” المسؤولين” مجالا للسخرية، خصوصا على وسائل التواصل الاجتماعي، والبعض يشبه أحدهم بـ ” جحا المصري”، بينما يشبه آخرون بعض آخر بـ ” سيسي فوس الشهير بسيزيف” في الدراما الاغريقية القديمة.

ويعكس التشبيه خلفية وثقافة من يطلقونه بما يبرهن على انقسام المجتمع بين أصحاب هذين التوجهين: التوجه نحو المشرق والتراث والثقافة الشرقية الخاصة بالمنطقة، والتوجه الآخر نحو الحضارة الغربية وثقافتها وقيمها. ولا أجد ضيرا في ذلك، وإن تمنيت أن يتم التكامل بين جميع الرؤي لصالح المجتمع.

ربما تمنيت أن يلتقط أحد الباحثين الجادين فكرة المقارنة بين شخصيتي جحا في ثقافة المشرقيين، وسيزيف في ثقافة الغربيين لكونهما شخصيتين تتميزان بالتعقيد والغموض وأنهما ساهما علي مر العصور في إلهاب خيال الكتاب والمفكرين وأصحاب القلم والرأي في العالم: شرقه وغربه.

أولا بالنسبة لشخصية جحا في التراث الشعبي العربي، سنجد أنها شخصية غامضة ساخرة، مسكونة بالحيلة والمكر والدهاء. وتعود أقدم القصص المنسوبة إلى جحا في التراث العربي إلى القرن الأول الهجري، السابع الميلادي، وبالتحديد إلى رجل يدعى دُجين بن ثابت الفزاري، وقد كان يلقب بجحا وكان ظريفاً، لكن يقال إن الكثير من القصص المنسوبة له مكذوبة في واقع الأمر.

وتؤكد المصادر التراثية العربية إن الجاحظ هو أول من أشار في مؤلفاته إلى جحا أو ذكره، عندما أورد في كتاب “القول في البغال” نوادر بطلها جحا دون أن يترجم له، أو يحدد هويته بوضوح مما يدل على أن هذه الشخصية كانت معروفة في زمانها على الأقل على مستوى الخيال الجمعي، حتى وإن لم تكن تعيش في الواقع.

وقد أورد ذكره العلامة الحافظ ابن عساكر وقال إنه عاش أكثر من 100 سنة، وذكر أنه من التابعين، وكانت أمه تعمل عند والدة الصحابي الجليل أنس بن مالك، وكان الغالب عليه السماحة وصفاء السريرة، ولذلك فقد حذر من السخرية منه.

كما أن السيوطي والذهبي والحافظ ابن الجوزي، أتوا على ذكر جحا في كتبهم، وأورد ابن الجوزي عن رجل يدعى جحا ويكنى أبا الغصن يرجح أنه دجين الفزاري نفسه، وروى عنه ما يدل على الفطنة والذكاء “إلا أن الغالب عليه التغفيل”، وهناك من يرى أن الحكايات المضادة كان مصدرها المعادين لفطنة جحا وحكمته من زمرة السلطة في ذلك العصر.

وهذا يدل على أن شخصية جحا تم توظيفها منذ البدايات على مستويين، الأول كان يدفعها لصالح الفطنة والحكمة وحلّ القضايا الاجتماعية بأسلوب ساخر ينم عن الذكاء، والمستوى الثاني يدل على مصالح السلطة التي قامت على نقد جحا وتحويله إلى مثال للغباء والبلاهة.

ولا تزال شخصية جحا في الخيال الجمعي للمشرقيين تحظي بهذا التناقض المرير بين الحكمة والغباء. بين الفطنة والبلاهة. بين المكر والتغفيل لدرجة أن الأديب المصري الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد ذهب في كتابه “جحا الضاحك والمضحك” للقول عن نوادر جحا إنها يستحيل أن تصدر عن شخصية واحدة لتباعد البيئات التي تُروى عنها.

 

وبالتالي فإن شخصية جحا هي نتاج “عقل جمعي” على مدى عصور متعاقبة من فترة بواكير الإسلام حتى زماننا هذا، كما أنها أيضاً أنتجت بأكثر من صورة في البيئات العربية والفارسية والتركية والمصرية والهندية، بحيث كان لكل بيئة نموذج ” جحا ” الخاص بها، بحيث صار هناك ” جحا الفارسي” و ” جحا التركي” و ” جحا المصري” و ” جحا الهندي” بجانب النسخة الأصلية منه وهي ” جحا العربي” ابن شبه الجزيرة العربية.

ويمكن فهم التطور الخاص بشخصية جحا في التراث الشعبي الجمعي للمشرقيين، ويثور التساؤل هنا: هل أنتجت الحضارة الغربية نموذجا خاصا لجحا العربي أو المصري أو الهندي أو التركي؟!

في تقديري أن أقرب نموذج لشخصية جحا خصوصا في جانب المكر والدهاء في الثقافة الإغريقية القديمة التي هي الأساس الأول للثقافة الغربية، هي شخصية سيزيف أو (سيسي فوس) الذي يعد أحد أكثر الشخصيات مكراً ودهاء في الميثولوجيا الإغريقية، وهو ابن الملك أيولوس ملك ثيساليا وإيناريت، وأول ملك ومؤسس لمملكة كورنثوس. وهو والد جلا وكوس من الحورية ميروبى، وجد بيليروفون. وتقول أساطير اغريقية لاحقة بأن سيزيف هو والد اوديسيوس من أنتيكلي، قبل أن تتزوج بزوجها اللاحق ليرتس.

وربما الأشهر من شخص سيزيف في الثقافة الغربية هو العقوبة المثيرة للجنون التي عوقب بها جراء اعتقاده المتعجرف كبشر بأن ذكاءه يمكن أن يغلب ويفوق ذكاء زيوس ومكره. سيزيف اتخذ خطوة جريئة وربما متهورة بالإبلاغ عن فضائح ونزوات زيوس الغرامية، وأخبر إله النهر أسوبوس بكل ما يتعلق بظروف وملابسات اللقاءات الحميمية التي جمعت زيوس (كبير الآلهة) بابنة إله النهر إيجينا. وبصرف النظر عن كون نزوات زيوس غير لائقة، فإن سيزيف- وفقا للدراما الاغريقية- تجاوز وخرق بشكل لا تخطئ العين حدوده لأنه اعتبر نفسه ندا للآلهة حتى يٌبلغ عن حماقاتهم وطيشهم ونزقهم. وكنتيجة لذلك، أظهر زيوس ذكاءه الخاص بأن ربط سيزيف بعقوبة سرمدية وحيرة أبدية بحيث صارت معاناته مضربا للأمثال حيث يقال إن معاناة فلان هي معاناة ” سيزيفية”!!

وتروي وقائع الميثولوجيا الإغريقية أن زيوس أوكل لاثنين من الآلهة هما: هادس إله الحرب وسانتوس إله الموت أن يقوما بتصفيد وتقييد سيزيف وإلقائه في الجحيم، وعندما هما بالقيام بذلك أقنع سيزيف إله الموت سانتوس بأن يجرب الأصفاد على نفسه ليعرف مدى كفاءتها، وعندما فعل، قام بإحكام الأصفاد عليه، وتوعد هادس وفر هاربا.

وتقول الأسطورة إن زيوس كبير الآلهة مع إله الحرب ” هادس” جن جنونهما وبدءا يفقدان المتعة لأن الخصوم لا يموتون بسبب تكبيل سيسي فوس أو سيزيف لإله الموت سانتوس ليبدأ زيوس بنفسه بعد ذلك رحلة البحث عن سيزيف في العالم الأرضي.

ظل سيسي فوس ( سيزيف ) مختبئا لفترة، وعندما شعر بدنو أجله، أمر زوجته بألا تقدم أضحيتها المعتادة عندما ينتقل للعالم السفلي، وبالفعل عثر زيوس علي سيزيف في أحد الكهوف وألقاه في الجحيم، وظن أنه استراح من شروره ومكره، غير أن سيزيف استطاع إقناع «برسيفوني» ملكة العالم السفلي بأن زوجته تهمله وتهجره وتمتنع عن تقديم الأضحية المعتادة له كزوج مخلص صالح، فتركته «برسيفوني» يصعد من العالم السفلي بعد أن أقنعها بأن زيوس ألقى به في الجحيم ظلما وحرمه من قربان زوجته الذي يخفف العذاب في العالم السفلي.، مما أغضب زيوس مجددا.

تعجبت آلهة الأولمب من قدرة هذا الإنسان البشري الماكر سيسي فوس أو سيزيف على التلاعب بهم وبعقولهم!! فقرر زيوس أن يعذبه عذابا أبديا سرمديا تحت إشرافه مباشرة بأن يجعله يحمل حجرا ثقيلا كل صباح من سفح جبل الأولمب إلى قمته، وعندما يكاد يصل لنهاية المهمة عند الغروب يتدحرج الحجر ليهوي إلى السفح مجددا، فيقوم برفعه مرة أخرى، وهكذا يوميا إلى الأبد ليقتنع سيزيف أثناء قيامه بهذه «المهمة المستحيلة» أنه ليس سوى بشر ضعيف محدود العقل لا يمكن مهما بلغ ذكاؤه وشره وتوسعت حيلته، أن يضاهي مكر الآلهة.

كان سيزيف وقصته يشكلان موضوعا شائعا للكتاب المطلعين على أصول الثقافة الغربية التي تشكل الأساطير الإغريقية جزءا مهما منها. ففي القرن الأول قبل الميلاد فسر الفيلسوف الأبيقوري لوكريتوس أسطورة سيزيف كتجسيم للساسة الذين يطمحون ويسعون باستماته للوصول إلى كرسي الحكم والمنصب السياسي ووصفهم بأنهم مهزومون مغلوبون في مسعاهم بصفة دائمة مستمرة، وأن السلطة مجرد شيء فارغ خاو في حقيقته، تماما مثل دحرجة جلمود الصخر لأعلى التل. وقد اقترح فيلكر أنه يرمز إلى الصراع العبثي للإنسان في سبيل المعرفة، ورأى ألبير كامي في مقاله المنشور عام 1942 والمسمى أسطورة سيزيف، أن سيزيف يجسد هراء وسخف ولا منطقية ولا عقلانية الحياة الإنسانية، ولكنه يختم بقوله إن المرء لابد أن يتخيل أن سيزيف سعيد بتلك الحالة تماما كما أن النضال والصراع والكفاح ذاته نحو الأعالي والمرتفعات كاف وكفيل بملء فؤاد الإنسان بالفرح والغبطة حتى وإن لم يتحقق الهدف. ثم يختتم كامي مقاله بالقول:” إننا جميعاً نعيش في هذه الحياة ونحارب فيها ونحن نعلم أن هذا كله زائل وأنه بلا جدوى. نحن جميعاً سيزيف”!

صرخة الفيلسوف الفرنسي ألبير كامي:” نحن جميعا سيزيف ” ربما تجد نقيضا موضوعيا لها في قصة جحا مع ولده والحمار.

وفي تقديري أن سيزيف في الثقافة الغربية ليس سوي مجرد مرآة تعكس فلسفة جحا العميقة التي تراكمت عبر السنين. كثيرون قد يدركون ذلك، ولا أظن أن من بينهم طبعا هؤلاء ” المسؤولين “!!

 

بقلم / أحمد حسن الشرقاوي

صحفي وروائي من مصر

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.