بالوثائق: الحكومة تحتكر القمح المصري..وتحدد سعرا غير مناسب مقارنة بالمستورد !
أظهرت وثيقة تداولها التجار، صادرة عن وزارة التموين المصرية، أن المزارعين سيضطرون إلى بيع ما لا يقل عن 60 في المئة من قمحهم للحكومة هذا الموسم، وإلا سيخاطرون بفقدان الدعم المالي، فيما اتهم مزارعون الحكومة بالحصول على محصولهم بأسعار تقل كثيرا عن سعر القمح المستورد من الخارج، مما يصيب المزارعين بالخسارة.
وقالت الوثيقة إنه سيتعين على المزارعين بيع ما لا يقل عن 12 أردبا (150 كيلوغراماً) من القمح عن كل فدان، وينتج الفدان عادة 20 أردبا في المتوسط، وتنطبق القواعد أيضاً على أي طرف ثالث اشترى القمح من المزارعين قبل اتخاذ القرار.
وبعد الوفاء بالحصة، ينبغي على المزارعين الحصول على تصريح من الحكومة لبيع ما تبقى من قمحهم في مكان آخر، وإلا سيُحرم المزارعون الذين لا يمتثلون من الحصول على الأسمدة المدعومة في الصيف، وكذلك من أي دعم من البنك الزراعي المصري.
كما تنص القواعد على حوافز للمزارعين الذين يملكون قطع أرض تزيد مساحتها على 25 فداناً ويبيعون 90 في المئة أو أكثر من إنتاجهم للحكومة، ومنها الأسمدة المدعومة.
ولم تُطبق قواعد من هذا القبيل على المزارعين في السنوات القليلة الماضية، وحتى الآن لم تعلن وزارتي التموين والزراعة عن القواعد الجديدة بشكل نهائي، إلا أن وزارة التموين كانت قد أعلنت من قبل، استهداف شراء أكثر من ستة ملايين طن من القمح من المحصول المحلي هذا الموسم، بزيادة 66 في المئة عن كمية القمح المشتراة في العام السابق.
ورفعت الحكومة المبلغ الذي ستدفعه للمزارعين مقابل قمحهم، وفرضت حظراً لثلاثة أشهر على صادرات القمح والطحين، كما يتوقع تغير سعر الخبز غير المدعوم.
حذر برنامج الأغذية العالمي من مخاطر أزمات غذائية تلوح في الأفق على مستوى العالم بسبب توقف تصدير منتجات الحبوب والسلع الأخرى الأوكرانية والروسية بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل أقل من أسبوعين. وتبدو مصر من بين أكثر دول العالم تأثرا بهذه الحرب على صعيد ضمان توفير القمح ومنتجاته من الخبز والمعجنات والحلويات والسلع الأخرى.
ولا عجب في ذلك إذا عرفنا أن بلاد النيل أضحت أكبر مستورد للقمح في العالم وبحجم سنوي يزيد على 13 مليون طن سنويا تشكل أكثر من ثلثي احتياجاتها من هذه السلعة الحيوية والاستراتيجية. كما أنها بحاجة لاستيراد أكثر من ثلثي احتياجاتها من زيت عباد الشمس وزيوت نباتية أخرى. وتشكل روسيا وأوكرانيا مصدرا لنحو 85 بالمائة من كميات القمح المستوردة. وبالنسبة للزيوت النباتية فإن حجم الاستيراد من البلدين المذكورين يزيد على 70 بالمائة من احتياجات السوق المصرية. ومع اندلاع الحرب وانقطاع طرق الشحنعبر موانئ البحر الأسود الروسية والأوكرانية ووضع الحكومة الأوكرانية قيودا على صادرات الأغذية تواجه الحكومة المصرية تحديا كبيرا يتمثل في إيجاد بدائل لاستيرادها بسرعة من دول أخرى لأن الاحتياطات الموجودة في المخازن لا تكفي لأكثر من أربعة أشهر.
يبدو أن توفير بديل للقمح من أوكرانيا وروسيا بالسرعة المطلوبة ليس هينا في الوقت الحالي، لأن الطلبيات بدأت تنهال على المُصدّرين الآخرين للقمح والزيوت النباتية مثل دول الاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة وأستراليا والأرجنتين من كل حدب وصوب بفعل الحرب. وهو الأمر الذي اضطر الهيئة العامة المصرية للسلع التموينية إلى إلغاء مناقصة دولية ثانية لشراء القمح بسبب قلة العروض وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق. وقد قفز سعر طن القمح إلى أكثر من 410 دولارات مؤخرا مقابل أقل من 260 دولارا قبل أقل من ستة أشهر. وفي كل يوم تطول فيه الحرب تشهد الأسعار المزيد من الارتفاع الذي بلغت نسبته ما يزيد على 30 بالمائة قبل مضي أسبوعين على اندلاعها. ومن شأن هذا الارتفاع الذي حصل حتى الآن أن يكلف ميزانية الدولة المصرية نحو مليار دولار إضافية خلال النصف الأول من السنة الجارية.
تبدو المشكلة في الحالة المصرية ليست في قلة المال اللازم لشراء السلع المطلوبة من الخارج. فالحكومة المصرية مقارنة مع تونس ولبنان وبلدان نامية أخرى ليست بحاجة للاقتراض لتوفير الدولارات اللازمة لاستيراد القمح والزيوت النباتية وسلع غذائية أخرى. فاحتياطات البلاد الحالية من العملات الصعبة تزيد حاليا على 40 مليار دولار، كما أن ارتفاع أسعار الغاز حقق للخزينة المصرية عوائد بنحو 4 مليارات دولار خلال العام الماضي 2021، حسب وزير البترول والثروة المعدنية المصري طارق الملا. وعلى ضوء الارتفاع المستمر لهذه الأسعار يتوقع أن تكون عوائد السنة الجارية 2022 أعلى من سابقتها.
المشكلة إذا ليست في عدم توفر الدولار والعملات الصعبة الأخرى، بل في نقص العرض السلعي من الأغذية من جهة وفي ارتفاع أسعارها وأسعار التأمين والنقل من جهة أخرى. ويعود هذا النقص إلى أن الدول المطروحة كبدائل لا تتوفر لديها الكميات اللازمة لسد الطلب المتزايد وتعويض نقص الصادرات من روسيا وأوكرانيا. فهذان البلدان لوحدهما يُصدران حوالي 30 بالمائة من الصادرات العالمية من القمح بحجم أكثر من 55 مليون طن. ويزيد الطين بلة أن زراعة الحبوب وعباد الشمس وفول الصويا لموسم السنة الجارية تعرضت لظروف مناخية سيئة في دول تُعد من أكبر المستوردين كالصين أو من كبار المنتجين كالبرازيل والأرجنتين.
على مدى عقود طويلة بقيت الدول التي تمتلك احتياطات كافية من العملات الصعبة في مأمن من نقض الأغذية بسبب قدرتها على الدفع بهذه العملات والاستيراد.غير أن تبعات جائحة كورونا خلال العامين الماضيين وتبعات الحرب التي اندلعت في أوكرانيا، في الرابع والعشرين من شباط/ فبراير، تؤدي إلى مزيد من قطع سلاسل إنتاج وتوريد الأغذية ومصادر الطاقة والسلع الأخرى بشكل يحبس الأنفاس. وهو الأمر الذي يؤدي إلى دفع معدلات التضخم والأسعار إلى الارتفاع بشكل جنوني. فعلى صعيد القمح مثلا هناك خشية من وصول سعر الطن إلى 500 دولار ووصول سعر برميل النفط إلى 150 دولارا خلال أسابيع معدودة.
ومن شأن مضاعفة الأسعار أن تؤدي إلى نضوب الاحتياطات الأجنبية بسرعة قياسية، لاسيما في بلدان تعاني من عجز تجاري مزمن مثل مصر. وقد وصل هذه العجز إلى أكثر من 33 مليار دولار عام 2020 مقابل 48 مليار دولار عام 2019 و 53 مليار دولار عام 2018، حسب مؤسسة الاستثمار والتجارة الخارجية الألمانية.
تفقد احتياطات مصر والدول العربية وغير العربية من الدولار والعملات الصعبة الأخرى جزءا كبيرا من قيمتها وقوتها الشرائية بسرعة غير مسبوقة هذه الأيام. ويزيد من هذه السرعة الحرب في أوكرانيا والأزمات الجيوسياسية وانقطاع سلاسل الإنتاج والتوريد المستمرة في التأزم في أنحاء مختلفة من العالم. وينطوي هذا الوضع على مخاطر متزايدة على الأصعدة السياسية والاجتماعية في بلد كمصر يعتمد بشكل كبير على استيراد القمح والأغذية الأخرى لسد احتياجاته المتزايدة منها، لاسيما وأن سياسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني لم تفلح في الحد من النمو السكاني الذي يسبق معدلات النمو الاقتصادي. وهو الأمر الذي يضع الحكومة المصرية أمام تحدي إيجاد سياسات بديلة تمنع قيام احتجاجات شعبية لا تحمد عقباها في المستقبل. والسؤال هنا ما هي السياسيات البديلة الممكنة؟
قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال الصعب ينبغي القول في البداية بأنه لا بديل في الوقت الحاضر عن متابعة البحث الحثيث عن عروض جديدة خارج روسيا وأوكرانيا لاستيراد القمح المطلوب من الاتحاد الأوروبي أو كندا أو الأرجنتين أو غيرها. أما على المديين المتوسط والبعيد فإن إعادة النظر بالسياسيات الزراعية الحالية بشكل راديكالي أمر لا بد منه. ومما يعنيه ذلك إعطاء الأولوية لـ”سياسة إحلال الواردات” من القمح والسلع الاستراتيجية الأخرى؛ من خلال إنتاج محلي بديل، ولو على حساب الزراعات الموجهة للتصدير والتي حظيت باهتمام بالغ خلال العقدين الماضيين. فسياسة الإحلال هذه تبدو الأكثر نجاعة واستدامة وحماية من تقلب أسعار السلع الأساسية التي تختفي من الأسواق الخارجية بسرعة حتى ولو توفر المال اللازم لشرائها. كما أنها السبيل الأنجح للمساعدة على إنتاج المواد الغذائية محليا بأسعار أنسب بدلا من الارتهان بالأسواق الخارجية الشديدة التقلب في تأمينها.
وهنا يمكن للحكومة المصرية تعزيز التجارب الناجحة في زيادة إنتاج القمح المحلي خلال السنوات القليلة الماضية إلى مستويات زادت على 9 ملايين طن عن طريق توسيع رقعة الأراضي الزراعية وشراء المحصول بأسعار مجزية وتحسين نوعية التقاوي والبذور ودعم المزارعين عبر توفير مستلزمات الإنتاج الأخرى بوسائل مختلفة كالقروض الميسرة والاستشارات المجانية. كما يمكنها الاستفادة من التجارب التي أدت إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي وزيادة التصدير من الفراولة والبطاطس والبصل والثوم والموالح وغيرها.
ومن أجل دعم سياسة إحلال الواردات أكثر وأكثر قد تكون إعادة النظر في عادات وثقافة التغذية السائدة ضرورية لصالح زيادة استهلاك الخضار والبطاطس ومصادر غذائية أخرى مقابل تقليل استهلاك الخبز والمعجنات ومنتجات القمح الأخرى. وتنبع أهمية ذلك من شبه استحالة لحاق زيادة الإنتاج المحلي من الأغذية بالنمو السكاني الحالي، لاسيما وأن الأراضي الزراعية محدودة ومشكلة المياه اللازمة للري تزداد حدة.
ومن بين ضرورات تغيير العادات المذكورة حقيقة أن معدل استهلاك الفرد المصري السنوي من القمح يزيد على ضعف معدل استهلاك الفرد على مستوى العالم.
المصدر: الشادوف+وكالات+صحف مصرية