أوقاف الكنيسة .. هل أموال الرب بعيدة عن عين النظام المصري..إيه الحكاية؟!
“دولة داخل دولة”.. يتردد المصطلح في مصر، تعبيراً عن مؤسسات تتميز بخصوصية شديدة، ولا تخضع لرقابة فعلية من قِبل السلطات المصرية، وهي مؤسسات تتخذ أهميتها في الأساس من ارتباطها بها، لكنها في الوقت ذاته تتمدد سلطاتها لتطغى على نفوذ الدولة. ربما يشير المصطلح إلى كيان اقتصادي هو “إمبراطوريات رجال الأعمال الكبرى”، أو كتعبير عن قوى الفساد وعدم الشفافية. ولكن الأكثر حظاً من الانتشار جاء ليخص الكنيسة القبطية. ففي أذهان المصريين تتبلور صورةٌ ذهنية توحي بأن الكنيسة القبطية دولة تحكم شعباً داخل أسوارها.
ربما تبدو الصورة أكثر قتامةً حينما يكون الاعتقاد الشعبي السائد أن الكنيسة مستقلةٌ ولا تخضع للسلطة المركزية. وبينما يعزز الإسلاميون من تلك الصورة ويؤكدونها مراراً، تستمر القيادات الكنسية في التأكيد على انصياعها بالكامل لإرادة السلطات المصرية، مثلما أعرب البابا تواضروس الثاني (تسلّم منصبه في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2012)، عن تأييده الشديد للرئيس عبد الفتاح السيسي، داعياً أتباعه إلى دعمه. حتى إن رجال دين بارزين آخرين زعموا أن “السيسي مُرسل من السماء”. ويستمر هذا الانصياع دوماً، لكن في ما لا يخالف العقيدة والتعاليم المسيحية، حسب تصريحات كنسية متكررة.
وكان للكنيسة مصلحتان رئيسيتان حاولت حمايتهما باتباعها للسلطة الحاكمة، خاصةً منذ بداية حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك. أولاهما: الحفاظ على استقلالها المؤسسي في مواجهة مؤسسات الدولة، والثاني: احتكار الحق بالتحدث وتمثيل المسيحيين المصريين في الداخل والخارج. وبالفعل سعى نظام مبارك للحفاظ على مكتسبات الكنيسة – فيما يراه مطلعون بأنه نوع من الصفقة – ليؤكد مراراً تلك الصورة، كما حمى الاستقلال المالي للكنيسة، حتى إنها رفضت بشكل قاطع إشراف مؤسسات الدولة على ميزانيتها وأنشطتها. وفي المقابل يتهمها معارضون للنظام بأنها أمّنت دعم أتباعها للحاكم وسياساته بشكل مطلق، واعتُبرت أصواتهم كفةً مُرجِّحة لرجاله في أي معركة انتخابية، ومثال على ذلك ما نقله المؤرخ والمفكر طارق البشري عن أسقفي شبرا الخيمة وحلوان “الأنبا مرقس” و”الأنبا بسنتي” (1). فبحسب شهادتهما أن الأبرشيتين تفرضان على الشباب من المقبلين على الزواج استخراج بطاقة انتخابية أولاً.
شائعات وخيالات
ألقت السرية التي تفرضها الكنيسة القبطية على مصادر أموالها وميزانيتها (وفقاً للكنيسة، فقد منع النص المقدس ك “وصية إلهية” الكشف عن مصادر تمويلها)، حالةً من الجدل والشائعات حول ما تملك، ووصفت أديرتها والأوقاف التابعة لها بأنها “إمبراطورية اقتصادية للكنيسة”، كما ترددت الشائعات في الأوساط الشعبية حول امتلاك الكنيسة والجمعيات الأهلية المسيحية أرصدةً سرية بمليارات الجنيهات (تندر المعلومات والأرقام الرسمية الخاصة بأموال الكنيسة، وترفض المصادر الكنسية الحديث بشأنها)، خاصة وأن الوضع المالي للكنيسة قد تحسن بشكل ملحوظ منذ تولي البابا شنودة كرسي الباباوية، بعد أن كانت مديونة للدولة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، حتى إنها قدمت تبرعات لصالح النظام الحالي و”صندوق تحيا مصر”. كما ظهرت في شكل المنقذ بعد إعلان جمعيات مسيحية تقديم مساعدات إنسانية، كبديل للجمعيات الإسلامية التي أغلقت بأمر رسمي عقب العام 2013، في وقت ترفض فيه إدارتها خضوعها للجهاز المركزي للمحاسبات (2)، على غرار كافة مؤسسات وأجهزة الدولة العامة، مبررةً بأن مصادر تمويل الكنيسة (3) ذاتية، وفي معظمها عبارة عن تبرعات، ولا تساهم الحكومة في ميزانيتها، ما يخرجها من دائرة الرقابة من الدولة.
الوضع القانوني للكنيسة القبطية
كشف المستشار طارق البشري (4)، في دراسات سابقة له، عن أحكام قضائية صدرت في فترات متتالية. ووفقاً لتلك الأحكام، فإن الكنيسة القبطية هي “مؤسسة عامة”، ما يترتب عليه الصفة القانونية والرقابية، مثلها مثل باقي مؤسسات الدولة، ومن ذلك الدعوى رقم 432 للعام 1962، وحكم المحكمة الإدارية العليا في الطعن 1190 للعام 1980، وكذلك الدعوى رقم 3282 للعام 1991. وخلص من تلك الأحكام إلى أن “الرقابة المالية للجهاز المركزي للمحاسبات يتعين أن تخضع لها كنيسة الأقباط الأرثوذكس وغيرها من الكنائس، وهي رقابة مالية ذات شق محاسبي وشق قانوني، كما أنها تشمل رقابة الأداء وغيرها. وإن هذه الرقابة ثابتة على الكنائس ثبوتها على كل الأشخاص القانونية العامة، والمادة 13 وما بعدها من مواد الباب الثالث من قانون الجهاز توجب على الجهات الخاضعة لرقابته أن توافيه بميزانياتها وحساباتها الختامية”.
أموال الكنيسة القبطية.. من يدفع ومن يقبض؟
عبّر القس إبراهيم عبد السيد (5) عن معارضته للنظام المتبع في إدارة أموال الكنيسة القبطية، كان ذلك سبباً لاضطهاده داخل الكنيسة. وذكر أن مصادر أموال الكنيسة متعددة، منها البكور(وتعني نسبة من أول ما يحصل عليه المسيحي في ثروته سواء أول مرتب أو علاوة وغيرها)، والعشور (تعد البند الأول لتمويل الميزانية الكنيسة حسب التصريحات الرسمية)، والنذور والتقديمات والتبرعات من الأغنياء وأقباط المهجر (6) (كل الأشكال السابقة من مصادر التمويل اختيارية ولا تُفرض على التابعين للكنيسة)، ورسوم الخدمات مثل أكاليل الخطوبة والزواج والعزاءات والخدمات الروحية، وأنشطة مثل الموالد المسيحية، والمطبوعات، والمدارس والمستشفيات المسيحية، وكلها مصادر تدر دخلاً قد يصل إلى مليارات الجنيهات في خزينة الكنائس (7) والأبرشيات والكاتدرائية الأم. لكن هناك عدم شفافية في إظهار مصاريفها، ولا تعلن الكنيسة عن كافة حساباتها أو ما تنفقه على خدماتها.
وتتلقى الكنيسة منحاً مالية من حكومات ومنظمات، قدّرها الكاتب القبطي ماجد عطية بحوالي مليار دولار سنوياً. وفي أزمة سيول الإسكندرية التي وقعت في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2015، تلقت الكنيسة تبرعات أقباط المهجر لترميم بعض الكنائس والأديرة التي أتلفتها السيول. ووفقاً للناشط القبطي رامي جان، فقد خرج جزء كبير من تلك التبرعات لحسابات شخصية لبعض القساوسة، وهو ما أشار إليه القس “عبد السيد” (8) حين تساءل عن الثراء الفاحش الذي أصبح عليه بعض رجال الدين! وفي تقرير له، ضرب الكاتب “قطب العربي” مثالاً على حجم العشور التي تحصل عليها الكنيسة القبطية سنوياً من أقباط المهجر في أمريكا، والبالغة حتى العام 2016 حوالي 300 كنيسة، وكل كنيسة تجمع حوالي 100 ألف دولار شهرياً (30 مليون دولار شهرياً، و216 مليون دولار سنوياً) يرسل 60 في المئة منها إلى القاهرة، كما أن هناك حوالي 200 كنيسة في أوروبا و60 كنيسة في أستراليا، بخلاف الكنائس في دول أخرى حول العالم، ما يمكّننا من تخيل حجم التدفقات المالية التي تصل إلى الكنيسة القبطية فقط من أقباط المهجر سنوياً، خاصةً وأن هناك منظمات معنية بالتبرعات، أشهرها منظمة (العالم القبطي-كوبتك وورلد) والتي بدأت أعمالها في العام 2007، وتضم في شبكتها الإلكترونية 60 دولةً حول العالم، تشمل 209 ولايات، و795 مدينة، فيها 1750 كنيسة.
وحسب بيانات المنظمة، فقد جمعت 275 ألف دولار في العام 2013، حسب ما ورد في الرسالة المرسلة من القمص “إبراهام عزمي” للأقباط المشتركين في المنظمة عبر إيميلاتهم الشخصية عن إنجازات المنظمة خلال العام المذكور. لكن يبقى دوماً في حيز التساؤل ما يخص كيفية إدارة تلك التدفقات المالية، خاصةً وأن الكنيسة لا تعلن عن قائمة مصروفاتها بشكل دوري، وربما تعلن بشكل جزئي، مثلما نشرت مجلة الكرازة الناطقة باسم الكنيسة في شباط/ فبراير من العام 2021، عن أن الكنيسة أنفقت على الخدمات الاجتماعية خلال العام 2020 نحو 137 مليوناً و130 ألفاً و644 جنيهاً، وأفردت جدولاً مفصلاً لخدمات أسقفية الخدمات العامة والاجتماعية التابعة للكنيسة عن العام نفسه، وقدرت خدماتها بحوالي 95 مليون جنيه مصري، وجدولاً تحت عنوان “أنشطة الخدمات العامة والاجتماعية والمسكونية لعام 2020” بقيمة مالية تجاوزت 45 مليون جنيه.
وتعد الأوقاف المسيحية جزءاً لا يتجزأ من مصادر تمويل الكنيسة القبطية، وتتوزع بين الأديرة وعقارات ومستشفيات ومدارس وأراضٍ، أوقفها أصحابها لأعمال البر العام والخاص، لكن تشوبها أيضاً السرية التامة، فلا يعلم مسيحيو مصر – وهم مستحقوها – عن ريعها شيء.. فما قصة الأوقاف المسيحية؟
قصة الأوقاف المسيحية
كشفت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، أنها تشرف على أوقاف تمثل 4667 فداناً وقيراطين و17 سهماً مملوكة لـ 337 وقفاً، بخلاف أوقاف أخرى محل نزاع مع هيئة الأوقاف الرسمية، والعديد من العقارات والشركات، وذلك من خلال هيئة الأوقاف القبطية التي تشكلت من خمسة مجالس طوال تاريخها، الأول صدر بتشكيله قرارُ رئيس الجمهورية رقم (1433) لسنة 1960 والأخير صدر بتشكيله قرارُ رئيس الجمهورية رقم (198) لسنة 2019، والتي استقلت عن الأوقاف المصرية بموجب القرارين الجمهوريين رقم (1433) للعام 1960، و(2326) للعام 1967، وتُعنى بإدارة أموال الوقف والتفاوض مع السلطات لاستعادة الأوقاف التي ما زالت في حيازة الحكومة.
مرت إدارة الأوقاف بمراحل عدة، بدءاً من المجلس الملي، الذي تأسس في العام 1872، لرعاية الشؤون المالية والإدارية للكنيسة، وكان مجلساً علمانياً اختير من المدنيين، ما خلق منذ تأسيسه خلافات حادة بينه وبين إدارة الكنيسة ورجال الأكليروس (رجال الدين)، انتهت إلى إعادة تشكيله برئاسة البابا وعضوية رجال دين ومدنيين، كما تقلصت صلاحياته حتى توقفت تقريباً، وأصبحت الأمور تدار بواسطة البابا شخصياً، أو رجال الأبرشيات التابعة ورؤساء الأديرة.
وفي الستينيات من القرن الماضي، وبعد إجراءات التأميم وقوانين الإصلاح الزراعي التي شهدتها مصر، وسيطرة الدولة على الأوقاف بأنواعها، وتحديد الملكيات بـ200 فدان كحد أقصى (بموجب القانون رقم 152 للعام 1957 بتنظيم استبدال الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البِر، والقانون رقم 44 للعام 1962 بتسليم الأعيان التي تديرها وزارة الأوقاف إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي والمجالس المحلية)، بدأ ما يعرف بنظام الاستبدال، حيث ضمت هيئة الإصلاح الزراعي كثير من الأطيان الموقوفة تحت صلاحيتها (يشير مطلعون على التاريخ الكنسي إلى أن بعض الأثرياء من المسيحيين، قد أوقفوا أراض للكنيسة، كنوع من التحايل على قرارات التأميم، وهو ما دفع بعبد ناصر إلى تأميمها)، وأسندت إدارة البقية إلى هيئة الأوقاف القبطية، والتي تولت اختيار القدر المحدد من الأراضي الزراعية وفقاً للقوانين الجديدة (9)، واستلام قيمة الأراضي المستبدلة.
وحتى العام 1996، حاولت الكنيسة استعادة الأوقاف المسيحية التي ظلت تحت سيطرة الدولة، حتى قدَم البابا شنودة الثالث طلباً لوزير الأوقاف لإعادتها للهيئة، ليصدر قرار بتشكيل لجنة مشتركة لبحث المشكلات المتعلقة بالأوقاف، والتي انتهت إلى استحقاق هيئة الأوقاف القبطية 1474 فداناً و11 قيراطاً و15 سهماً موجودة في 15 محافظة، منها 332 فداناً و5 قراريط و20 سهماً تحت سيطرة هيئة الإصلاح الزراعي، واستحقاقها على عقارات وأراضٍ فضاء عبارة عن 8 عقارات، و4 قطع أراضٍ فضاء. وتمتلك الكنيسة القبطية أيضاً خارج مصر أوقافاً في فلسطين، لعل أشهرها دير السلطان المتنازع عليه بين مصر وإثيوبيا، وكثير من الأوقاف الأخرى في القدس.
ولم تتوقف جهود هيئة الأوقاف المسيحية لاستعادة باقي الأوقاف، حتى أعلن المستشار منصف سليمان (عضو هيئة الأوقاف القبطية الأرثوذكسية) أن الكنيسة حصلت على 99 في المئة من الأوقاف التي استحوذت عليها “دولة يوليو”.
وعلى الرغم من تصريحات الكنيسة الرسمية بأنها استعادت أغلب الأوقاف من الدولة، إلا أن هناك فريقاً كنسياً ما زال يطالب بأوقاف الإقطاعيين التي صادرها النظام الناصري، والتي أشرنا إلى أنه شابها بعض من التحايل منعاً للتأميم بضمها للكنيسة، فيما انقسم فريقان آخران حول ما إذا كانت هناك صفقةٌ عقدها النظام الناصري مع رؤوس الكنيسة وقتها مقابل تلك الأوقاف، الأول يرى أن هناك صفقةً فعلية أبرمت، تقضي بأن يُمكّن المسيحيون من استخدام مناطق جغرافية مميزة، لإعادة توطينهم مثل مناطق العباسية والظاهر وشبرا (أحياء شعبية داخل القاهرة الكبرى، قريبة من وسط العاصمة)، وكانت أحياء مملوكة في أغلبها لليهود والجاليات الأجنبية، مشيرين إلى أن خطة النظام الناصري في إجلاء اليهود عن مصر إجبارياً، شملت استبدال المسيحيين باليهود (10) في ممتلكاتهم وأوقافهم، وربما في بعض الصناعات التي كانت بيدهم مثل صناعة الذهب (الصاغة)، رغبة في عدم إبراز المواطنين من المسلمين كبديل، بينما يرى آخرون أن المناطق المذكورة وغيرها كانت في الأساس مؤسسة خارج أسوار القاهرة التاريخية، وعاشت فيها الأقليات الدينية والعرقية منذ نشأتها، وأنه من الطبيعي بعد رحيل اليهود أن تتخذها الأقلية المسيحية سكناً، خاصة بعد بناء الكاتدرائية المرقسية في العباسية.
وتُظهِر السرية التامة في البيانات المالية الخاصة بالكنيسة القبطية، حالة من التخبط فيما يخص خضوعها للرقابة الحكومية من عدمه. فعلى الرغم من التصريحات الدائمة الرافضة للرقابة، إلا أن الموقع الرسمي للكنيسة القبطية يشير إلى أن هيئة الأوقاف القبطية، هيئة “عامة” تتولى الإشراف على إدارة أوقاف الكنيسة “تحت رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات” (11)، وهو ما يضع المتابع للملف في نوع من الحيرة والتشتت.
الأديرة.. اقتصاد غير رسمي تخطى الخطوط الحمراء
كشفت دراسة المستشار حسين أبو عيسى المحامي بالنقض، في آذار/ مارس من العام 2014 أن أكبر الأديرة في مصر هو دير “أبو مقار” في وادي النطرون، وتبلغ مساحته نحو (2700 فدان)، يليه دير “أبو فانا” بالمنيا، وسبق أن ثار خلاف بين مسؤولين بالدير، ومجموعة من الأعراب من سكان المحافظة على ملكية 2000 فدان حول الدير، ضمها الدير إلى حيازته دون أوراق رسمية بقصد الاستصلاح وذلك في العام 2008. وانتهى الخلاف بالاعتراف بحيازة الدير لـ 552 فداناً فقط.
ولا يقتصر الحديث عن بعض الأديرة الرسمية التي توسعت في ضم أراضٍ لملكيتها فقط، لكن الأديرة غير الرسمية التي لا تعترف بها الكنيسة، أصبحت رمزاً يؤكد الصورة الذهنية الشائعة عن إمبراطورية الأديرة الاقتصادية غير الرسمية. ففي آب/ أغسطس من العام 2018، طالبت الكنيسة القبطية الأديرة غير الرسمية بتقنين أوضاعها، مؤكدةً أنها لم تعترف بها، مثل دير الأنبا كاراس بوادي النطرون، ودير الأنبا مكاريوس بوادي الريان. ووفق مقابلات شخصية، يرى مختصون أن الأديرة باتت كيانات منتجة تهدف للربح، تحقق ثروات طائلة، وتتوسع في الاستحواذ على أراضٍ صحراوية بهدف استصلاحها، وتصدير منتجاتها إلى السوق المحلي أو للزائرين. وقد تغاضت جهات رقابية وسيادية داخل الدولة عن مسألة قانونيتها، في مقابل الحصول على بعض منتجاتها مجاناً وبيعها، لكن تحت اسم مُصّنع آخر رسمي.
وكان مقتل الأنبا أبيفانيوس في تموز/ يوليو من العام 2018، بداية الشرارة لفتح ملف الأديرة غير المرخصة، وأظهر أن هناك العشرات من الأديرة التي توسعت بضم مساحات تصل لآلاف الأفدنة بطريقة وضع اليد، ومنها ما يدخل ضمن نطاق المحميات الطبيعية، ما عمّق من الخلاف بين الكنيسة والرهبان المخالفين، واعترفت الكنيسة وقتها بـ40 ديراً فقط، و13 تحت التأسيس و12 مزرعة تابعة.
ومع التوسع الكبير في اقتصاديات الأديرة باتت تنافس اقتصاديات رسمية مسيطرة، حتى إنها توسعت إلى درجة أنه يقام معرض لبيع المنتجات كل عام في كانون الأول/ ديسمبر، وذلك منذ العام 2013. وباتت الأديرة تعلن عن منتجاتها عبر محطات تجارية للبيع في مناطق تمركز المسيحيين بالعاصمة والمحافظات، وأيضاً عبر صفحات على المواقع الإلكترونية مثل دير مار مينا العجائبي (أصبح له علامة تجارية باسم العجايبي)، ودير البراموس والذي يمتلك دار نشر “الكرمة الحقيقية” (12)، ومزرعة دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، والذي يوزع منتجاته عبر محافظات مصر، في نوع يراه إصلاحيون بأنه خروج عن حياة الرهبنة ومكوناتها الثلاثة وهي الفقر الاختياري والعفة والطهارة.
قبضة النظام.. هل تتوسع؟
ولكن وفقاً للسياسة التي تتبعها السلطة الحالية في الاستفادة من كل الموارد والأصول الواقعة داخل الأراضي المصرية، فهل يسعى النظام إلى إعادة ضم الأوقاف المسيحية إلى حوزته إلى جانب الأوقاف الإسلامية عبر صندوق الوقف الخيري الجديد؟
في الثامن والعشرين من حزيران/ يونيو من العام 2021، وافق مجلس النواب المصري على مشروع قانون إنشاء صندوق الوقف الخيري بوزارة الأوقاف (يتبع رئاسة الوزراء مباشرة، ويكون له شخصية اعتبارية)، وأقره رئيس الجمهورية في السابع من أيلول/ سبتمبر من العام 2021. وبهذا فقد وضعت الأوقاف الإسلامية تحت إدارة الصندوق، ما أثار بعض التساؤلات تدور حول إمكانية ضم الأوقاف القبطية إلى الصندوق هي الأخرى، خاصةً وأن المشروعات التي من المقرر أن يستثمر فيها الصندوق الجديد سينتفع بها المصريون ككل، وليس المسلمون فقط.
ويؤكد قانونيون أن السلطة القائمة لن تقترب من الأوقاف القبطية بصورة مباشرة خلال فترة قريبة، لكن ربما تنظم مسألة إدارة أوقاف الأديرة، خاصةً وأنها تمتلك آلاف الأفدنة التي تقع في غالبيتها في مناطق صحراوية تسيطر عليها قوات الجيش. كما لم يطرح بعد قانونٌ رئاسي لتقنين أوضاع الأديرة، مثلما صدر قانون لبناء وتوفيق أوضاع الكنائس. فيما يرى حقوقيون مسيحيون أن شهر العسل الطويل بين الكنيسة والنظام سينتهي قريباً، وتسيطر الدولة على موارد الكنيسة وأوقافها، خاصةً وأن جدلاً قد نشب في البرلمان المصري في العام 2019، حول الأوقاف التابعة لمؤسستي الأزهر والكنيسة، وهل تنضمان لإشراف الأوقاف الرسمية، لكن تمّ تداركه وبقي لكل منهما الإشراف على أوقافهما. إلا أن الحدث وقتها طرح تساؤلات حول نية السلطة تعديل القانون لصالح أهدافها في المستقبل، خاصةً وأن البرلمان أقر قانوناً يقضي بإنشاء هيئتين للأوقاف الكاثوليكية والإنجيلية وفصل أملاكهما عن الكنيسة القبطية، ما أفقد هذه الأخيرة بعضاً من ميزاتها.
.. ويبقى السؤال: على الرغم من زيادة التدفقات المالية الواردة للكنيسة، واستعادتها أغلب الأوقاف من يد النظام، هل ساهمت كل تلك الأموال في تحسين أحوال فقراء المسيحيين؟ خاصةً في محافظات الصعيد الأكثر فقراً، والتي تمثل التمركز الرئيسي لمسيحيي مصر (المنيا، أسيوط، سوهاج..). وهل تصل أموال الرب إلى مستحقيها؟
المصدر: الشادوف+السفير العربي
تحقيق: رباب عزام